بقلم الأستاذ عبدالغني
فرحتي
اعتبر المنظرون
الأوائل السياسة ممارسة نبيلة وضرورية تستهدف تدبير شؤون المدينة. فكما أن الطب هو
علاج لعلل الجسد، نظروا إلى السياسة كطب للمدينة الغاية منه علاج أمراضها. لكن ما العمل
حين تكون السياسة في بلادنا نفسها مريضة وتحتاج هي ذاتها لمن يداوي أسقامها الكثيرة؟
لقد سبقت الإشارة،
في المقال السابق، إلى ضرورة ألا تبقى هذه المشاورات التي انطلقت منذ مدة، بين وزارة
الداخلية والأحزاب السياسية، لا ينبغي أن تنشغل بالجوانب التقنية المؤطرة للاستحقاقات
الانتخابية فقط. لقد أمسى من الضروري أن تبادر هذه الأحزاب، بما لها من دور حيوي في
ترسيخ الممارسة الديموقراطية في البلاد إلى الثورة على نفسها وإعادة تأهيل ذاتها وتجديد
خطاباتها وبنياتها وأجهزتها.
هناك أحزاب وطنية
صارت تملك مقرات ضخمة وفسيحة ومجهزة أحسن تجهيز، ومنها ما يوجد في أرقى الأحياء، ومع
ذلك، لا تعرف النشاط والحركة إلا لماما. فغياب الديموقراطية الداخلية والانشغال بالصراعات
واللهاث وراء المكاسب الذاتية، كلها عوامل أصابت هذه التنظيمات السياسية بالشلل.
ينضاف إلى ذلك،
هجران النخب الفكرية والكفاءات العلمية لهذه الإطارات السياسية. وما دام أن "الطبيعة
تخشى الفراغ " كما يقال، نلاحظ، من حين لآخر، ظهور أفراد وزعامات، يتم تسويقها
إعلاميا، تحسن تلويك الكلام والعزف على أوتار النعرات العرقية والمجالية دون أن يكون
لها خلفية ثقافية متينة ولا خط إيديولوجي واضح المعالم. وكانت النتيجة أنها ما إن انكشفت
عوراتها حتى توارت إلى الخلف بل ومن الزعامات من اختار النفي الطوعي ومغادرة البلاد.
غياب النخب الفكرية
والكفاءات العلمية عن أحزاب كانت تعتبر، إلى زمن قريب، منبتا حيويا لها، أدى إلى أن
أصبحت الهيئات السياسية، عوض أن تعتمد على نخبها الفكرية وأطرها التقنية في صياغة خطها
الإيديولوجي ووضع برامجها الانتخابية، تلجأ إلى مكاتب دراسات. والنتيجة أننا صرنا نجد
أنفسنا، خلال الحملات الانتخابية أمام كلام مكرور ومناشر ومطويات تلتقي في الشعارات
والبرامج ولا تختلف إلا في الألوان والرموز.
غياب النخب الفكرية
ساهم فيه، بشكل كبير، كون القيادات للعديد من الهيئات السياسية افتقدت لرحابة الصدر
التي يفرضها النقاش الديموقراطي وصارت تواجه كل من انتقدها أو أبدى رأيا مخالفا بشعار
"أرض الله واسعة". فكانت النتيجة أن غاب المثقف وانطلقت هذه القيادات تبحث
عن الأعيان وعن "شخصيات" لا يوجد أي شيء يربطهم بالحزب. صار الهاجس هو رفع
نسبة التغطية في الدوائر الانتخابية سعيا، وبأي ثمن، وراء توسيع قاعدة الاستفادة من
أموال الدعم.
وحسب ما ترسب من
هذه المشاورات الجارية بين الأحزاب ووزارة الداخلية، فقد تم طرح للتداول اقتراح يهم
تخصيص حصيص أو لائحة تخصص للنخب الفكرية خلال الاستحقاقات المقبلة لعل ذلك يكون محفزا
لعودة "الطيور لأوكارها". لكن، حتى وإن تم التوافق على ذلك، فإن مثل هذا
الإجراء لن يكون سوى حل ترقيعي لدر الرماد على العيون. فمن أجل أن ننتقي هذا الحصيص
لا بد أولا من وجود هذه النخبة داخل هذه الهيئات، نخبة ناشطة وحية هي التي تفرز هذا
الحصيص سواء عن طريق الانتقاء أو التنافس الديموقراطي. وأمام هذا الفراغ قد يكون الحل
مرة أخرى هو البحث عن الإطار الجاهز من خارج هذه الهيئات لا تربطه بها أية رابطة والذي
قد يتمرد على توجيهاتها في أية لحظة.
يبقى الأمل في
تكوين نخب واستقطابها معقودا على الشروع في إصلاح قاعدي، يكون من لبناته استعادة التنظيمات
الموازية لبريقها المفقود والتي كان تأطيرها واشتغالها يستهدف الأطفال واليافعين، التنظيمات
التي كانت تعنى بالشباب ويكون لها برنامج سنوي للتكوين النظري والإيديولوجي. جمعيات
وطنية كبيرة ساهمت في تكوين العديد من الأطر الوطنية اختفت وخفت بريقها. ويبقى من الأسباب
الرئيسية لذلك، تهميش الحزب لتنظيماته الموازية وتكريس كل المجهودات للتهافت على المقاعد
واللهاث وراء المناصب في عزوف تام عن الاهتمام بالامتداد الجماهيري وتوسيع القاعدة
وتكوين القلة الباقية من المنخرطين والاهتمام "بالفئات الصغرى".