بقلم الأستاذ حميد طولست
في غمرة لهوي السعيد مع حفيدي فاجأني سؤاله
الغريب عن صاحب البيت الشهير التالي:
لا تنهَ عن خلُقٍ وتأتيَ مثلَه ::: عارٌ
عليك إذا فعلت عظيم
فقلت إنه من المشهور يا حبيبي لأبي الأسود
الدؤلي*، وهو ضمن قصيدة حِكمية في نحو أربعين بيتًا، منها:
يأيها الرجلُ المعلّمُ غيـــــــــــرَه ::::::هلاّ لنفسك كان ذا التعليمُ
ونراك تُصلح بالرشاد عقولنا ::::::أبدًا وأنت من الرشاد عديمُ
حدجني حفيدي بنظرة مصلوبةُ على حائطِ التعجب
والاستغراب ،والتساول حول دعوى استعملي لمصطلح "من المشهور" ، وهل وراء ذلك
شاك في إمكان أن يكون البيت لشاعر آخر غير أبي الأسود الدؤلي ؟
وللحدّ من وطأة القلقِ الذي ينخرُ ذاكرته
أجبت دون تردد او تلكك : نعم يا حبيبي استعملت عبارة "من المشهور" للإشارة
إلى ما عرفه هذا البيت من اختلاف شديد بين المؤرخين حول نسبته الى قائله ، والذي بلغ
مبلغا خياليا جعل منه البيت الأكثر تنازعا عليه بين الشعراء الذين ادعاه جمهور غفير
منهم ، ونسبه العديد من المؤرخين لمن يهوون من الشعراء ، بعد أن أَمِنوا أي اعتارض
على لذلك -لإنعدام وسائل الإعلام في ذاك العصر – كما فعل سيبويه حين نسبه للأخطل، رغم
توزّع شعره بين المدح والهجاء، وبعده غاية البعد عما تضمه البيت من الموعظة المطابقة
لقوله تعالى:" أتأمرون الناس بالبِرِّ وتنسَون أنفسكم "البقرة، 44، ما جعل تلك النسبة ضعيفة جدًا أو خاطئة بالمرة ،
العلة التي لم تمنع النحاس من نسب البيت للأعشى
، ونسبه السيرافي لحسان ، وابن عساكر للطرماح ، والحاتمي لسابق البربري ونسبه كل من
ابن سلاّم في (الأمثال وطبقات فحول الشعراء)، والأصفهاني في (الأغاني) ، والزمَخْشري
في (المُسْتقصَى) إلى المتوكِّل الليثي الكِناني .
ازدادت نظرة حفيدي استغرابا واستفسارا حول
سبب استهداف هذا البيت دون غيره من ابيات القصيدة الثلاثين التي هي أيضا على نفس النسق
وقوة السبك والتراكيب ؟
كان جوابي أن سبب ذلك-حسب تقديري- هو احتلال
البيت للمكانة المتميزة في عالم الشعر العربي وفي أمّهات كتب اللغة والتاريخ والأدب
، وتداوله كمحور للقصيدة التي جاء فيها ، والتي تعدّ كنزاً من كنوز العربية ودرّاً
من بحرها الواسع لما تضمّنته من الشعر الجزل المسبوك ، بما حوته من المواعظ والتعاليم
،و ما جمعته أبياتها من مكارم الأخلاق وحثها على طلب العلم ومصاحبة الكرام ومجانبة
السفهاء وصلة الأرحام وعمل الخير وغيرها من المزايا والمميزات التي جعلت الشعراء يتهافتون
على إضافتها هذا البيت لأشعارهم عله ينال به الشهرة الواسعة التي تميز بها ،
هوامش:
* أبو الأسود الدؤلي:
أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي الكناني
(ت. 688 م):نحْوي عالِم وضع علم النحو في اللغة العربية، وشكّل أحرف المصحف بطريقة
خاصة، وذلك بوضع النقاط على الأحرف العربية. صحب علي بن أبي طالب الذي ولاه قضاء البصرة.
وشهد معه وقعة صفين والجمل ومحاربة الخوارج.