adsense

/www.alqalamlhor.com

2020/05/31 - 7:48 م

بقلم الاستاذ أحمد كركري
دائما ما شكلت الأوبئة منعرجا هاما و قويا في إعادة تقييم السياسات المتبعة داخل جل الدول التي عانت من ويلاتها , بل أصبحت نقطة التحول في المسار التاريخي لهذه الدول وذلك على جميع  المستويات.
 ومن خلال حديثنا عن كرونولوجيا الأوبئة و السياق التاريخي المرتبط بها في هذا الموضوع, سنلاحظ مدى التأثيرالكبيرلهذه الأوبئة على البنية الاجتماعية و الاقتصادية في العديد من الحالات.
لعل المتتبع للأثار المتعلقة بإنتشار الأوبئة عبر التاريخ , سيعي كل الوعي بأن الاوبئة  كانت تعد بمثابة الإختبار الحقيقي للشعوب وحكامها قديما وحتى في العصر الحديث, و الدليل على هذا الكلام أن هناك أمثلة عديدة تاريخية تؤكد بأن الأوبئة شكلت في العديد من المرات الشعرة التي قصمت ظهر البعيرسواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي. بداية بطاعون عمواس الذي إنتشر في بلاد الشام أيام خلافة عمر بن الخطاب سنة 18 هـ  بعد فتح بيت المقدس، ومات فيه الكثير من المسلمين ومن صحابة النبي محمد عليه السلام , كما شكل تحديا كبيرا للخليفة عمر بن الخطاب على المستوى السياسي و الاقتصادي حيث تم فرض الحجر الصحي  على المسلمين في ذلك الوقت كإجراء إحترازي لمنع تفشي المرض, مما أدى إلى جمود و ركود النشاط التجاري انذاك. ثم طاعون مصعب بن الزبير الذي إنتشر في العراق سنة 72 هـ  و أودى بحياة الألاف في ذلك الوقت. وصولا إلى الطاعون الدبلي الذي فتك بأوروبا في القرن 14.
 إن الطاعون الدبلي الذي مزّق أوروبا و العالم في العصور الوسطى يعد من أبرز الأمثلة التي يمكن الإستشهاد بها  فيما يخص ربط مدى  تأثير الأوبئة على الجانب الإقتصادي و الإجتماعي للمجتمعات. وهو ما سوف نتعرض له في هذا المقال و بشكل مختصرنظرا لطول الأحداث.
تأثير طاعون دبلي على أوروبا القرون الوسطى
لقد أحدث الطاعون الدبلي الذي انتشر في أوروبا العصور الوسطى{ القرن 14} زلزالاً إجتماعيا و سياسيا, حيث أزهق أرواحا عديدة و قلب الموازين الاقتصادية و الاجتماعية انذاك في أوروبا.
 لقد أدى طاعون دبلي إلى إنهاء النظم الإقطاعية , وإندلاع إنتفاضات جماهيرية أدت إلى جانب الهلاك الصحي المتعلق بإنتشار الوباء إلى نشوب أزمة إقتصادية حادة متعلقة بالطبقات الكادحة التي وجدت نفسها تئن تحت وطأة الفقر , و إنعدام أبسط وسائل التطبيب و العيش لمواجهة الوباء, ولم تجد حلا سوى أن تثور في وجه الطبقة الاقطاعية المسيطرة, لأنها لم توفر الحلول القوية و الناجعة لهذه الفئة من أجل النجاة أو العيش الرغيد، و كانت التكلفة مدمرة قدرت بفقدان ثلث السكان حيواتهم انذاك.
 كما قتل الطاعون العديد من الناس لدرجة أن العمال أصبحوا فئة نادرة للغاية ، وإنهار الطلب على الأرض، وقد مكّن ذلك العمال الباقين من تحصيل أجور أعلى، بينما كان ملاك الأراضي والإقطاعيون يحصلون على دخل وأرباح أقل, وهكذا أصبح الأغنياء أقل ثراءً والفقراء أقل فقراً,وتعادلت الدفة الاقتصادية بين الاقطاعيين و العمال, وهذا كله مرده إلى الزلازل الاجتماعي الذي ضرب أوروبا بسبب هذا الطاعون وأثر على البنية الاقتصادية بشكل كبير.
إضافة الى كل هذا قوضت تجربة الطاعون الدبلي ثقة باقي طبقات الشعب في السلطات الحاكمة في أوروبا انذاك بسبب سوء تدبيرها لهذه الكارثة ,  وفي المقابل  شكل هذا الوباء فيما بعد دافعا و حافزا. للسلطات الحاكمة من أجل العمل بجهد و إخلاص قصد إسترجاع ثقة الشعوب فيها, و كذلك من أجل الحفاظ على مكانتها في السلطة.
بتحليل الأثار التي خلفها طاعون دبلي بأوروبا القرون الوسطى يتضح بأن الوضع الاجتماعي في ذلك الوقت عاش ارتباكا واضحا أدى بالطبقات الكادحة  التي عانت صحيا وإقتصاديا إلى الثورة في وجه الإقطاعيين كرد فعل سببه ليس سياسي بل إقتصادي محض.نتيجة تردي الأوضاع الإجتماعية لهذه الطبقة.
 وبالتالي شكل الوضع الإقتصادي سببا في التأثير على الوضع السياسي لطبقة الاقطاعيين لأنهم لم يوفروا الحلول القوية و الحماية الإجتماعية و الصحية لهذه الطبقة , و لم تجد هذه الفئة حلاً سوى الخروج و الإحتجاج و الثورة في وجه الإقطاعيين, ليشكل هذا السلوك الجماهيري الجماعي نقطة  التحول فيما بعد. حيث أصبح هناك توزيع عادل للثروات و ارتفع الدخل الفردي لهذه الطبقة , و أصبح الوضع الاجتماعي لهذه الفئة جيداً بسبب الطاعون الدبلي.
 وهنا يجب أن نستحضرما قاله الفيلسوف هوبز في معرض تحليله للطبيعة البشرية فى ضوء سيكولوجية السلوك الانساني و أسبابه في حالة الطواريء, حيث أكد على أن المصلحة الذاتية هى المحرك الأساسىي للسلوك الإنسان فى حالة الخطر و الطواريء. و بالتالي هذا ما يفسر الصراعات التى شهدتها تلك الحقبة من تاريخ البشرية بسبب المرض ، طالما أنه لا وجود للقانون أو العدالة في نظرهذه الطبقة.
وبالرجوع للحديث عن فيروسات العصر الحديث فقد شكل فيروس الإنفلونزا الاسبانية سنة 1919 كارثة إنسانية  بكل المقاييس , حيث كانت بدايته بإسبانيا ليمتد بعدها ويغزوا دول أوروبا بأكملها، وما زادا الطين بلة في ذلك الوقت أن الطاعون ظهر إبان فترة الحرب العالمية الأولى. لتظهر بعد ذلك و على مر السنين عدة فيروسات,ففي عام 1997 كان أول ظهور لفيروس انفلونزا الطيور, وما أن خفت حدة فيروس انفلونزا الطيور حتى ظهر مرض جديد باسم "انفلونزا الخنازير". وصولا إلى عصر جائحة كورونا.
عصر كورونا
إن جائحة كورونا التي إجتاحت العالم في أواخر سنة 2019, شكلت تهديدا ورعبا حقيقيين لكل حكام و شعوب العالم. فالمنتظم الدولي لم يكن يولي أهمية كبرى لعلم الفيروسات بقدر ما كان يوليه لتكنولوجيا السلاح و التسابق نحو إمتلاك الأسلحة , ليجد نفسه في حقيقة الأمر متخلفا و بدرجات في مواجهة هذه الجائحة.
لقد فرض فيروس كورونا على العالم حجرا صحيا أدى إلى تراجع إقتصادات العالم و الركود و الإفلاس الإقتصادي في العديد من الحالات, كما أظهر عيوبا صادمة للعديد من الدول التي كانت إلى وقت قريب تتشدق بتفوقها العلمي و التكنولوجي في المجال الصحي. لتجد نفسها في حقيقة الأمر منسحقة و منهزمة أمام هذا الفيروس اللعين. وأدركت أن التسابق و المنافسة يجب أن تكون بدرجة أولى على مستوى البحث العلمي الطبي الفيروسي و دعمه و توفير كل سبل البحث العلمي السليم للعلماء من أجل إيجاد الحلول.
المغرب و جائحة كورونا
المغرب بدوره يعتبرمن بين دول العالم التي غزاها فيروس كورونا, حيث  شكل هذا الفيروس تحديا لسلطات البلاد و لكافة طبقات الشعب المغربي. وأمسى لازما على السلطات المسؤولة العمل على التعبئة الشاملة لكافة أجهزة الدولة قصد مواجهة و محاصرة إنتشار هذا الفيروس, و يحسب للمملكة المغربية أنها بدأت التعبئة ضد فيروس كورونا بشكل مبكر جدا.
بحلول منتصف مارس، عندما بدأ الإبلاغ عن الحالات المحلية الأولى للفيروس التاجي، بدأت الحكومة المغربية بالفعل في اتخاذ إجراءات إستباقية حاسمة تمثلت في إغلاق الشركات والمؤسسات والمقاهي و المطاعم و الفنادق في جميع أنحاء البلاد. وبحلول أواخر مارس، توسعت تلك الجهود لتشمل خطة "حكومية شاملة" للتغلب على المرض، حيث تم ضخ أموال و استثمارات كبيرة في قطاع الرعاية الصحية في البلاد، ورصد مكثف للأفراد المصابين بالمرض، والتزام وطني بتخصيص حوالي 2.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لمكافحة الوباء.
لقد سايرت الممكلة المغربية التبعات و الاثار الناجمة عن هذ الفيروس التاجي بشكل يحسب لها لأنها قامت و بشكل سريع بأمر من جلالة الملك محمد السادس بإنشاء صندوق خاص بتدبير جائحة كورونا, ليشكل هذا الصندوق نقطة الإنطلاقة الحقيقية نحو خلق نوع من التكافل و التعاضد الإجتماعي القوي بين كافة أطياف و طبقات الشعب المغربي , وذلك بهدف ضمان الحماية الإجتماعية للطبقات المتوسطة و الهشة التي تشكل الشريحة الكبرى من المجتمع المغربي. حيث تم العمل على صرف تعويضات خاصة ومباشرة للأسر المعوزة و لكل الفئات المتضررة جراء قرار إغلاق المقاولات و المصانع, كإجراء تعويضي لهذه الفئة التي تشكل عصب الحياة الاقتصادية.
إن التحركات التي قام بها المغرب لمجابهة هذه الجائحة نالت إعجاب و إستحسان جل فعاليات المجتمع الدولي ,  و يكفي أن نشير في هذا السياق إلى التصريح الذي أدلى به المتحدث بإسم الاتحاد الأوروبي بيتر ستانو، لوكالة المغرب العربي للأنباء حيث قال " تمت إعادة تعبئة نحو 450 مليون يورو لهذه الغاية، قصد دعم جهود المغرب، لاسيما في شكل دعم مباشر للصندوق المحدث تحت رعاية الملك محمد السادس، من أجل مكافحة تداعيات الفيروس، أو في شكل مدفوعات مسبقة ".حيث أن دعم الاتحاد الاوروبي للمغرب جاء بسبب السياسة الناجعة التي نهجتها السلطات المغربية لمواجهة فيروس كورونا و التي اعتبرها بيتر ستانو رائدة  و رائعة. و بالتالي يجب العمل و الحفاظ على كافة المكتسبات التي تم تحقيقها جراء تدبيرهذه الجائحة  والعمل على تطويرها بشكل يسهم في إحتواء الصدمات الاقتصادية و الاجتماعية التي قد تحدث مستقبلا.
و حتى لا نكون مثاليين أو طوباويين غارقين في لغة الخشب, يجب أن ندرك كل الإدراك  بأن هناك نواقص يجب العمل مستقبلا على تقويتها حتى نصبح أقوى, منها ما يتعلق بالجانب الصحي و التعليمي و الصناعي و الإجتماعي و حتى الرقمي.
على المستوى الصحي
فيما يتعلق بالجانب الصحي يجب التركيز على دعم البحث العلمي في هذا المجال ,مع تقوية الإهتمام المادي و المعنوي بالأطر الصحية و الطبية في القطاع العام , إضافة إلى إحداث تخصص علم الفيروسات في كليات الطب, مع العمل و بشكل سريع على تقوية القطاع الصحي بإنشاء مستشفيات ذات طاقة إستعابية عالية, دون إغفال أهمية  إحداث المختبرات الطبية المعترف بها, الخاصة بالتحاليل الطبية بعموم جهات المملكة قصد الرفع من سرعة إجراء التحاليل مع تجويد هذه الخدمة و تقريبها من المواطنين, وأخيرا  يجب تعميم و تقوية  نظام التغطية الصحية و جعله شاملاً.
كما أظهرت هذه الجائحة قوة المغرب في مجال صناعة المستلزمات  الصحية و الطبية الأولية, فعلى سبيل المثال حقق المغرب إكتفاءا ذاتيا على مستوى صناعة الكمامات الواقية بل و أصبح يصدرها نحو الخارج و بكميات كبيرة. و هذا الأمر يعطي بريقا من الأمل بأنه يمكن مستقبلاً الإعتماد على الصناعة المحلية و تطويرها حتى تصبح قوة مصدرة .
على باقي المستويات
أما على المستويات الاخرى فقد أضحى لازما التفكير الجدي في رقمنة الإدارة العمومية من أجل تحسين و تسريع الخدمات العمومية المقدمة للمواطنين, مع إرساء قواعد الثقافة الرقمية السليمة و الفعالة. فقد أظهرت جائحة كورونا مدى الاحتياج الكبير لهذه الخدمة في ظل الأوضاع الصحية التي صاحبت إنتشار الفيروس ,مما أدى إلى تأخير و إلغاء الولوج الكلي أو الجزئي  للإدارات العمومية ,وهذا الأمر شكل عائقا أمام مرتادي الإدارات العمومية و مساً بمصالحهم الخاصة.
 نفس الأمر ينطبق على مجال التعليم الرقمي أو عن بعد , إذ أصبح خيارا يمكن اللجوء إليه أو الإستئناس به عند الضرورة , و ذلك عند توفر عنصر الإستحالة فيما يخص إلقاء الدروس بالطريقة العادية نظرا لوجود ظروف قاهرة. ولو أننا نعلم بأن  تطبيق برنامج التعليم عن البعد على أرض الواقع  قد يكون صعباً  بسبب الظروف الإجتماعية و التعليمية للأسر المسؤولة عن التلاميذ, وهذا مارده لضعف المستوى المادي و ذلك فيما يخص شراء الأجهزة و الهواتف الذكية مع ضرورة التوفر على صبيب للإنترنت, زد على هذا ضعف الجانب التعليمي و المعرفي حول كيفية التعامل و الولوج لهذه الأجهزة الذكية من طرف أباء و أولياء التلاميذ.
العبرة التي يجب أن نستخلصها من هذه الجائحة تتجلى في أن التغيير يأتي بالفهم الصحيح للكوارث بل وبالفهم العلمي الفلسفي الإجتماعي لها,و الإدراك بأن السلوك الجماعي وقت الكوارث يجب أن يكون موحدا و بنفس قوة الكارثة ولكن مختلف عنها في الإتجاه , أي يجب أن يكون هذا السلوك المجتمعي المتخد مبنيا على التشخيص الصحيح للكارثة. وهذا الأمر مرتبط كل الإرتباط بمدى إسيتعاب السلطة و الشعب لهذه الكوارث وقت حدوثها بالشكل الصحيح و بمدى إستخلاص العبر و الحلول الناجعة و الانية و المستقبلية لها.
 فالصدمات الإقتصادية و الكوارث الطبيعية  و الأوبئة المعدية أحيت شعوبا و بعثتها من رُقادها، مانحة إياها فرصة ثانية من أجل تصحيح سلوكها . كما ساهمت أيضا في إعادة البناء "من الداخل" وذلك بالتركيز على دعم البحث العلمي كطوق النجاة من هذه الازمات, مع دعم الصناعة المحلية و تطويرها و العمل على صناعة المواد الأولية الضرورية الطبية و الغذائية و الصناعية, دون إنتظار المساعدة أو العطف من أحد, ففي وقت الأزمات ستظل وحيدا تصارع التقلبات الإقتصادية القوية في ظل غياب الدعم و إنشغال كل طرف بالبحث عن مخرج يلائم إحتياجاته.