بقلم عبد الحي
الرايس
زهِدَ الكثيرون
في دِيَارهم، وتهافتُوا على تَعْدَادِ رِحْلاتِهم، ومُلاحقةِ أسفارهم، مُتنقلين بين
الأقطار، مُسْتعذِبِين الاِغْتراب، أليْسَ في السفر مُتعَة وفائدة؟ أليس فيه كلُّ خيْر
وعَائدَة؟ ولكنهم تناسَوْا أن الزيادة في الشيْء نُقصان، وأن من أصول الرِّحْلة الاسْتقرار،
والتمعُّنَ في الاِسْتطلاع، ومُعايشة الأغْيار، للمُقارنة والاعْتبار، بَيْدَ أن ما
دأبَ عليه الْقَوْمُ في مُحْدَثِ الأيَّام التنقلُ لفترةٍ محْدودة، ولَوْ لِأيَّامٍ
مَعْدُودَة، فقط لتغْيير الجو، والفرار من لسْعةِ الْقَرِّ، أو لَدْغَةِ الْحَر، أوالتباهي
بِهِجْرةِ الأوْطان، وارْتيادِ الآفاق، إلى حد أن كثيراً من الكفاءات الناضجة، بعد
أن كانت بكل عطاءٍ واعدة آثرت الابتعاد واستكانت للاغتراب.
أَغْرَى بِكُلِّ
ذلك تنافسُ الطائرات والناقلات في تيْسير الْحُجُوزات، وتقريب المسافات، وتباري الأمْصار
في استقطاب الكفاءات واستقدام السياح، وإغرائهم بترخيص الأسْعار، وتأمين الْخِدْمات،
وصارتِ السياحة الخارجية دَيْدَنَ كلِّ زَاهِدٍ في ما لَدَيْه، مُتطلِّع إلى ما عند
غَيْره، مُتعلِّلاً بنقصٍ في التجهيزات، وتقْصِيرٍ في الْخِدْمات، ومُغالاةٍ في الِاسْتخلاصات.
إلى أن حدثتْ الرَّجُّة
باجْتياح الْوَباء، فانقطع حبْلُ المواصلات، وتعطلتِ الرِّحْلات، انْجَحَرَ الناسُ
في بيوتهم، وصاروا يُمَنُّونَ النفسً بالتنقل ولو في دِيَارِهِم مُردِّدين: مَنْ لنا
بزيارة القريب، وارتيادِ الْمَرْبَعِ والْمَصِيف، ولكنْ هيْهاتَ هيْهات
وتفطنُوا ـ ولو
بَعْدَ حِين ـ إلى جَوٍّ لَوَّثُوه، ورَحِمٍ أضاعُوه، واقتصادٍ دمَّرُوه، وتُراثٍ أهْملُوه،
وهَبُّوا من صَحْوتهم يتنادَوْنَ لِتَسانُدٍ وترَاحُم، وتماسُكٍ وتقارُب، ولتَجْوالٍ
في ربُوع البلد، واستكشافِ سِحْره وبَهائه في السفْح والجبل، والحاضرة والْوَبَر، والتعبئةِ
للإعلاءِ من شأن الوطن .
أوْبَة من اغترابٍ
إلى الذات، وصَحْوة من انْبِهارٍ واسْتلاب ، وبَلَلٌ من لُهَاثٍ وراء سَرَاب، ودَعْوةٌ
إلى تدارُكِ ما فات، وتبَصُّر بما هو آت.
تُرَى !ما الذي
سيطرأ إذا الكُلُّ آثر الاستقرارَ على الاغتراب، إذا الطيورُ المهاجرةُ والكفاءاتُ
المغتربة قررت العودة، والكفَّ عن مُواصلة الهجرة، ولقيت الترحيبَ والتشجيع، وفرصَ
البحث والتشغيل، وأجواءَ الاعتبار والتكريم
سينخرط الجميع
لا محالة في تحقيق العيْش الرغيد، وتحصين البلد السعيد، وبناء المستقبل المجيد.