adsense

/www.alqalamlhor.com

2019/08/24 - 2:47 م

بقلم الأستاذ عبد الغني فرحتي
 منذ ما يزيد عن ستة عقود والإشكالية اللغوية بالمغرب لا تبارح مكانها. كل مرة تتكرر الأسطوانة ويحمى وطيس الجدل والخلاف بين المناصرين للتعريب وبين المنافحين عن الفرنسة و"التعدد اللغوي". فهل من المعقول أن يستمر طرح الإشكال اللغوي طيلة هذه السنين دون أن يتم الاهتداء إلى حل؟ ما هي العوامل الحقيقية الثاوية وراء مواقف الأطراف المتصارعة؟
 يبدو، في الواقع، بأن هذا الصراع مفتعل، تحكمه خلفيات سياسية وإيديولوجية أكثر مما تحركه انشغالات معرفية وتربوية بل وحتى هوياتية. إنه صراع يطغى عليه البعد الديماغوجي وميل الطبقة السياسية في عمومها إلى إذكائه أكثر من أجل إخفاء خوائها المعرفي وافتقارها لرؤى ومخططات تروم تجاوز المشاكل العميقة التي يحبل بها واقع البلاد في الوقت الراهن. ما يؤكد ذلك هو أن  المسؤولين السياسيين المنخرطين في هذا النقاش، يهجرون المدرسة العمومية ويسجلون أطفالهم بمؤسسات التعليم الخاص وخاصة بمدارس البعثات الأجنبية. أكثر من ذلك، كثيرا ما يتخذون من اللغة الأجنبية لغة التخاطب داخل بيوتاتهم.
 بطبيعة الحال، الكل حر في اختياراته، لكن ما هو غير مقبول، هو النفاق والكذب: أن يدعي المرء التمسك بلغة معينة ويبالغ في تعداد حسناتها أمام الجموع والكاميرات، في حين يختار لأطفاله لغة أخرى يراها بأنها ــ بحسب ميزان الربح والخسارة ــ الأنجع والأضمن للحصول على المناصب والمراكز، فذلك لن يكون، في الحقيقة مجرد نصب واحتيال. وأحيانا لا يختلف في هذا المحافظ عن الحداثي، المسؤول السياسي ذي المرجعية اليمينية عن ذي المرجعية اليسارية. يظهر ذلك جليا عند الاستحقاقات الانتخابية، حيث يصبح الخطاب شعبويا، لا يحكمه سوى هاجس اقتناص الأصوات.إن الطبقة السياسية في البلاد تتحمل مسؤولية هذا التخبط في حسم المسألة اللغوية رغم انصرام أكثر من ست عقود. هناك بلدان كانت خضعت هي الأخرى للاستعمار مثل المغرب، لكنها غداة الحصول على الاستقلال حسمت اختيارها، بل منها من اختار لغة غير لغة المستعمر.
نعم، لكل بلد لغته أو لغاته الرسمية، وهي إحدى الدعائم المحددة للهوية والموجبة للتقدير والاعتزاز، غير أني أرى أن إتقان لغة أجنبية وخاصة إذا كانت من اللغات الحية ــ أقول إتقان ــ هو في الحقيقة إغناء للغة الأم. إن فتح مسالك للبكالوريا الدولية مهم جدا، غير أن ذلك لم يواكبه تكوين أطر قادرة على إنجاز دروس في مواد كالاجتماعيات والفلسفة بالفرنسية والإنجليزية وغيرهما فضلا عن تدريس المواد العلمية. 
  بصراحة، سأفتخر حين أرى ناشئتنا تتقن لغات أجنبية نطقا وكتابة، خاصة وأبواب التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي أمست مشرعة على مصراعيها، وبالتالي من شأن هذا التمكن اللغوي أن يحصنها ضد ما يتداول عبر هذه الشبكات أحيانا من أفكار سامة هدامة.
 إن من السلبيات العميقة التي صاحبت عملية تعريب المواد العلمية التي انطلقت أواخر سبعينيات القرن الماضي هو أن حصص اللغة الفرنسية مثلا  كانت يتيمة. قبل ذلك، كنا ندرس مادة الفرنسية ويتاح لنا تملكها من خلال استعمالها في المواد العلمية، بل حتى حصص التربية البدنية كانت تعطى بالفرنسية. مع التعريب الذي طال المواد العلمية، صارت، وكما سبق، حصص الفرنسية يتيمة، بل وأصبحت " الفرنسية تدرس بالعربية والدارجة" نظرا للتدني المتواصل في مستوى المتعلمين.
 لذلك، والحديث جار عن الشروع في بلورة مشروع تنموي جديد، وبعيدا عن أي تخندق إيديولوجي أو سياسي، لابد من حسم المسألة اللغوية. نحن مع الانفتاح على اللغات الأجنبية والعمل على إكساب أطفالنا ملكتها منذ سنوات التعليم الأساسي. ولما يصل التلميذ إلى نهاية السلك الإعدادي، يجب أن تطرح أمامه اختيارات متعددة حول اللغة التي يريد أن يتابع بها دراسته في التعليم التأهيلي: فرنسية أو إنجليزية أو صينية ....وبذلك يتجسد فعلا شعار التناوب اللغوي الذي يحيل على التعدد لا على الانتصار المضمر للغة معينة.