بقلم الأستاذ حيد
طولست
إذا كان ما عانته
المدينة المغربية من ترييف تجاوز كل الحدود ، على يد من تولى تسيير شأنها عبر عقود
، "كوم" كما يقول المصريون، فإن
ما أصبحت تعاني منه اليوم "كوم ثاني" مع ظاهرة "التنخيل" أي غرس
أشجار النخيل-إن صح التعبير- الوافدة على مجتمعنا ، والغريبة عما ألف جيلنا مشاهدته
من أشجار التوت والتغزاز ولرنج المتناسقة مع بيئتنا ، والتي ترسخت صورها الجميلة بذاكرته
، وعلق بعقله ومشاعره وحواسه ما كانت تضفيه على المدينة ومنشآتها ومرافقها من جماليات
حياتية تفاعلية تبعث رسائل رقي الذوق ورفعة التذوق لكل سكان المدينة وزوارها ، الطموح
الكبير الذي كان لنا في مدن مغربية جميلة وخضراء تخاطب الإنسان وتقدم له تجربة حياة
جميلة وممتعة ومثيرة ومحفزة ، تتماشى مع ما تشهده المدن المعاصرة في العقد الأخير،
وخاصة مع تبلور مفاهيم الاستدامة والمدن الخضراء، من توجها نحو إعادة صياغة مفهوم تطوير
وتنسيق وتجميل مظهر ميادين وشوارع المدن ، والذي تُتجاوز فيه المفاهيم البالية في التنسيق
والتجميل ، قصر مسؤولو الشأن المحلي والوطني
الجدد مساهمتهم التجميلية على غرس أشجار النخيل ، كأسّ من أسس التجميل ، وكمرتكز من
مرتكزات التحديث ولبترميم ، بالدراسات التقنية والمقاييس الموضوعية المعمول بها في
مثل هذه البرامج التشجيرية التجميلية ، التي احال ارتباطها بالعشوائية والتقليد ، كل
مدن البلاد وقرلها إلى واحات نخيل باهنة لا حياة فيها ، وجعل كل جمالياتها أشباحا موحشة
، رغم ما أنفق عليها من أموال طائلة من خزينة الدولة.
لم تكن ما توصلت
إليه المدن الإنسانية من تحضر ومدَنِيّة وجمالية بمحض الصدفة والحظ ، بل كان ثمرة لجهود
مسؤولين وسياسيين عباقرة ومبدعين تميزوا بالعمل الجاد والمتواصل والمخلص وامتلاك كل
مؤهلات النجاح ومهارات التعاطي مع ما يخص مصالح مدننا بالشكل الذي يحقق للمواطن الحد
الأدنى من الاستمتاع بالحياة ، يستهين براحته ولا يستخف بذوقه ، ويقديم له نموذجا معاصرا
في تجميل مدينته ، معتمدة على استراتيجية متكاملة ، لا مكان فيه للاعتباطية ولا للعشوائية
، حريصة على يهذب التشوهات السائدة في عمراننا بسبب كثافة البناء الخرساني المتراكم
بقسوة.
لأن جمال المدن
مسألة ذوق يكمن في الأنساق المتقاربة في الروح والبعيدة عن التناقض والنمطية..الذي
تجسده أشجار النخيل بطابعها الشرقية والعربية -الاستوائية وشبه الاستوائية - وإنتمائها
للطبقة الراقية من الأشجار المستعملة كنماذج فردية فوق المسطحات الخضراء للمؤسسات الرسمية
، علماً بأن الهدف الأساسي من زراعة الأشجار في الشوارع هو الناحية الجمالية التنسيقية
بالإضافة إلى الأهمية البيئية وما تجلب للمدن وللأشخاص الذين يعيشون في مناطقها الحضرية
من فوائدة. عديدة ، كالحصول على الظل في الحدائق والشوارع والميادين.
تجميل وتزيين الطرق والشوارع ومنع دخول الملل إلى
نفوس السائقين والمشاة ، والتقليل من حوادث السيارات الناتجة من إستعمال النور العالي
وذلك بزراعتها في وسط الطريق للفصل بين الإتجاهين ، وكسر حدة الضوضاء في الطريق . الفوائد
التي لا توفرها أشجار النخيل ، المشروع الذي حمله معهم مسيرو البلاد الجدد على ظهور
البغال من كهوف "قنظهار" وجعلوه أولوية أولويات برامجهم لتزيين المدن..
سأتوقف عند هذا
الحد ، حتى لا أضطر للتحدث عن صفقات غراسة أشجار النخيل التي تقدر بالملايير عبر مختلف
مدن البلاد ، وعن كيفية إعداد وتسجيل هذه المشاريع ، ومضمون الصفقة ومحتواها والطريقة
المعتمدة في منحها وإسنادها ، والجهات التي تقف وراء إنجازها وممونيها .