بقلم الأستاذ حميد طولست
سألني أحد المعارف عن سبب انقطاعي عن حضور صلاة الجماعة بالمسجد
، بما فيها صلاة الجمعة ، وهل هناك، لا قدر الله ، ما يمنعني من ذلك ، أجبت المتسائل شاكرا له إهتمامه بحالي ، الذي
أحمد الله جعلني آمنا في أهلي ، معافا في بدني
، مطمئن البال ، هانئ النفس ،أعيش بين زوجي وأبنائي وأحفادي سعيدا وكأني ملكت الدنيا
بكاملها ، أعشق الجمال وأصفق للفن وأرقص مع اللحن الطروب بالخفة العشرينية التي عهدني
عليها ؛ أما عن زهدي في صلاة الجماعة بالمسجد والتي لا تحتاج حكمة سنها إلى تفكير ،
بل إلى تفكّر في معنانيها الشرعية والإنسانية ، كثاني ركن من أركان الإسلام ، فقد كان
جوابي بأن المشكل ليس في صلاة بالمسجد ، كمظهر
من مظاهر الإسلام العظيمة التي تدفع بالمسلمين للتعارف، والتواد ، والتراحم، والتعاطف
، وقبول الآخر ، وتظهر عزة الإسلام ، وتبين قوة المسلمين، ووحدتهم ، ولكن المشكل في
انحراف الشيوخ والأئمة والفقهاء وكل الذين يتصدرون المشهد الديني في المساجد ، بكل
ما يلقى فيها من خطبة الجمعة ودروس الوعظ وحلقات الإرشاد الأخلاقية والدينية والمعرفية
، والزيغان بها عن وظيفتها في تفقيه المسلمين في أمور دينهم وديناهم ، وتثبيت قلوبهم
على النهج المستقيم ، وتوجيههم للطريق الصحيحة وفق أحكام الشريعة ، والتي تم تحويلها
إلى وسيلة مثالية لتسويق الأفكار التجهيلية والرؤى الشاذة المحرضة على الكراهيّة والقتل
، على أنها الطريق القويم، والسبيل الذي لا فلاح خارج دائرته ، ما جعل حال بعض المساجد
أشبه بحال الكنيسة التي كانت قبل قرون أداة لقهر الأوربيين ووسيلة لتركيعهم وحملهم
على خدمة النبلاء والإقطاعيين الكبار.
وقبل الإسترسل في كتابة هذا الموضوع، لابد من تنبه القراء
الكرام إلى أن هذه المقالة ليست دعوة لترك الصلاة وولا تحرضا على مقاطعة المساجد ،
كما يمكن أن يتبادر لبعض الأذهان المريضة ، وإنما هي تنبيه إلى ظاهرة خطيرة بدأت تنتشر
على واسع في مجتمعنا، وتتزايد حدتها في ظل صمت المجتمع المدني، وغفلة الصحافة ، وتراجع
الدولة ، أو إسترخائها في تطبيق القانون، وسكوت وزارة الأوقاف المعني الأول بالتصدي
لهذا المسخ المشوه للدين الإسلامي كما أنزله الله سبحانه ، والمزور لكتباه تعالى ولآياته
النيرة المليئة بتباشير الحبّ والمودّة والرحمة والتآخي والمتسامح والإنسانية والأخلاق
السامية الخالدة والذوق المتحضر السامي ، والكلام الطيب والأسلوب المدني المتحضر العالي
، وغيرها من الصفات والسلوكيات التي جعل سبحانه وتعالى التحلي بفضائلها والتمسك بمحامدها
، مبدأ جوهرياً من المبادئ الأساسية لإصلاح النفس، وتصحيح ، مساراتها وتحصينها من سوء
الخلق، وإبعادها عن سيئ العادات، وتعويدها على الصدق والأمانة والتعاون ، وكل ما يدخل
ضمن المعاملات الطيبة الحسنة ، التي هي أصل الدين الذي يحقق السلم بين خلق الله ، والتي
زاغ بها تجار الدين ومرتزقته عن غايتها، بنية
قلب الوقائع وتغيير الحقائقة وتلفيقها ونشر الأراجيف والأباطيل بين الناس قصد تزييف
المبادئ الكونية والمثل العليا للدين المشبوب بالرحمة والتآخي الإنساني ، وتحويلوها
إلى غلظة وشدة وويل ولعنة وتحريض ، يجعل من المسلمين مجتمعات وشعوبا متقاتلة ، يضرب
بعضها رقاب بعض ، باسم الدين الذي يَعدم باسمه رجاله كل مظاهر الحريات الشخصية، حتى
يتمكنوا من إحكام قبضاتهم الحديدية على عقائد الناس وأخلاقهم وسلوكاتهم ، وقوانينهم
ونظمهم ، وكل مجالات حياتهم ، من لباس وسياسة واقتصاد وثقافة وفكر وأدب وعلوم ، بدون
أسانيد شرعية أو حجج منطقية ، غير الاعتماد على أحاديث القتل والتنكيل المفتراة على
الرسول صلى الله عليه وسلام ، والتي يروجون لها في خطاباتهم الدينية المتطرفة التي
تلقى في الكثير بيوت الله، فتلقى لدى كثير من العامة وبعض الخاصة رواجا ، وتنفر الكثير
ممن فطن بخطورة الدسائس التي يبثها أعداء الإسلام
من خلال الترويج للأحاديث المكذوبة والروايات الملفقة وقصص الإسرائليات الخرافية
وكل ما لا يتفق والغرض الذي جاء به الذين ، وبنيت من أجله المساجد ، وإني هنا لا أعمم
لأن التعميم لغة الجهلاء ، ومع ذلك يجب الإنتباه إلى هذه الظاهرة ، والوقوف ضددها ،
إذا كنا نأمل التطور والتغير نحو الأفضل ، الذي لن يتأتى إلا بتغيير الموروث الاسلامي
غير الصحيح المسيطر على الفكر الذي له يد في كل سبب من أسباب تخلفنا، المسؤول الأول،
وليس الأخير، عما نحن فيه الآن من تخلف ، بما يبثه من سموم في مجتمعاتنا