بقلم الأستاذ حميد طولست
الحفاظ على الممتلكاتِ العامَّةِ نموذجا.
كما سبق أن قلت في مقالة سابقة ، أني لا
أدري كم مرّة زرت فيها باريس ، لكني متأكد أنني في كل مرة أزورها ، اكتشف الجديد في
هذه المدينة المنظّمة المليئة بشكل لافت بالمنتزهات العامّة والخاصة ، التي كانت ولازالت
مضرباً للمثل بما زرع بها من أغرب النباتات وأجمل المغروسات وأعطر الورود ومتنوع الأشجار
المظللة المنمقة والمشذبة ، وبحدائق ألعابها المزينة بالنافورات والبحيرات الصغيرة
والكبيرة ، الطبيعية والاصطناعية ، وملاعبها العملاقة وجسورها المتحركة وجامعاتها ومستشفياتها
ومصانعها ودور السينما والمسارح بها، والمباني الزجاجية والخرسانية المناطحة للسموات
، بتصاميمها الهندسية العجيبة الرائعة المبتكرة الدالة على تقدم هذا البلد علميا وصناعيّا
وزراعيّا وعمرانيّا وحضاريّا وعسكريّا ، ولا عجب في كون باريس كذلك وأفضل ، إذا عرفنا
أن مواطنيها وبقية الشعب الفرنسي متشبعون بالوطنية -البعيد عن الوطنية التي يستعر منها
بعض وزرائنا أو تلك الوطنية المقرونة عند بعض المرتزقة بشرب نوعية خاصة من الحليب-
ويعبدون التفاني في الحفاظِ على ثرواتهم الوطنية، وحمايتها من كل أنواع التعدي والفساد
المدني والاجتماعي والسياسي والبيئي ، والمادي والأخلاقي ، والحفاظ على سلامة مقوماتها
وقِيَمِهِا المجتمعية ومُثلِها ومبادئِها وضَّوابطِها الأخلاقيَّةِ ، واحترام رموزهِا
الوطنيَّة ، والالتزام بقيم التعاضد والتعاون والتواصل وتغليب المصلحةِ الوطنيَّةِ
على المصلحةِ الخاصَّةِ والذَّاتيَّةِ ، وتقديم
القدوة الحسنة ، والمحافظةُ على الممتلكاتِ العامَّةِ ، مربط الفرص ، الذي وقفت عليه
ودونته في الصورة المرفقة بالمقالة التي التقطتها لسيارات المهمة المخصصة لمسؤولي إحدى
مؤسسات الدولة ، وهي مركونة يومي السبت والأحد
بباحة "الجماعات المحلية لـ "لو فيزيني" بأحد ضواحي باريس ، ولا أحد
يستغلها خارج أوقات العمل ، بما فيهم رئيس الجماعة ونوابه ، ما يظهر وبالملموس مدى حب الفرنسيين لممتلكاتِهم
العامَّةِ التي يحافظون عليها كما يفعلون مع ممتلكاتهم الخاصة ، ليس لأنهم ملائكة ، ولكن لخوفهم من القوانين الصارمة
التي تطبيق في حق من يعبث بشؤون البلاد والعباد ، ما يجعل كل من يريد سرقة الأموال
العامة الاستحواذ عليها بدون وجه حق ، يتراجع عن ذلك كأساس إلزامي لاستمرار حياتهم
الفرنسية المتميزة ، آمنة من كل المخاطر ؟؟؟!! ولعلّ في ذاك ما يعضّد مقولة الشيخ محمّد
عبده :"رأيتُ في الغرب إسلاما بلا مسلمين"، والتي أطلقها إبّان سفره إلى
فرنسا واطّلاعه على أخلاقياتٍ جيّدة حثّ عليها الإسلام وافتقدها في عقر دار المسلمين..