بقلم الأستاذ حميد طولست
كم كانت غبائي شديدة، حين توهمت في صغري
أن الزمان عادل ، وكم كانت سذاجتي عظيمة حين إعتقدت أن كل الناس أنقياء وأني سأرتاح
معهم وأفرح في كبري بحياة كلها ربيع مزهر ، لا تتناوب علي فيها الفصول العجاف ، ولا
تتلفحني خلالها الخيبات وتطبع على وجهي ملامح بصماتها ، ولا تتيبس أثناءها أحلامي وتنكسر
طموحاتي وآمالي ، ولا يتكدس بدواخلي الحُزْن واليأس المؤدي ، لكل أنواع الإحباط والتذمّر
من الحياة والحظ ، ويدفع بي في أي لحظة جنون لا دخل لي فيها ويصعُب علي فهمها إلى توخي
الرحيل قبل الرحيل ، كما قال إيليا أبو ماضي ، وإلى الرغب في الغياب حتى عن نفسي
.
وكم كانت برائتي كبيرة حين فهمت ، بعد فوات
الأوان ، أن لحظات البهجة والفرح لها مواعد يتحكم فيها الزمان البارع في كسر أحلام
البشر ، وإحباط آمالهم ، وتلغيمها بالوجع والأحزان ، وتدجيجها باليأس والأسى الذي يجرعهم
به كل يوم ، وحين عرفت أنه يتلذذ بتمزيق علائق الناس، وتحريضهم على التركيز في عيوب
بعضهم ، والتغاضي عن إصلاحها .
موجع حقا ، ومؤجج للحُزْن واليأس في النفس
، أن تفطن المرء متأخرا جدا ، إلى أن من كان معجبا بصفاته وأسلوبه في الحياة ،ضحكه
ومرحه وتفاؤله ، قد أصبح يكره منه طبعه الذي خلق عليه ، وينتقد ما جبل عليه من سلوكيات لا يد له فيها ،
من دون أن يكـون له في ذلك حجة أوسببا ، ولا شيء أقسى من أن يقذف الإنسان ، وفي ارتجالية
غير مبررة ، بقنابل الاستخفاف القابلة للانفجار في رأسه، ويُرمى بشضايا الشماتة السريعة
المتمددة بدواخل روحه ، والأقسى من كل ذاك ، تفاهة المبررات التي تدفع به إلى أقصى
جنون ردات الفعل ، وتلجؤه ، في أحيان كثيرة ، إلى البكاء ، ليس ضعفًا ولا خوفا ، ولكن
تعباً من طول تقمص القوة والكبرياء ، ورفض التذمر والشكوى ، والتساؤل مع الحال الذات
وانشطارها بقسوة لفترة طويلة من الزمان ، بين ألم الشوق وأكداس الخيبات الجاثمة على
القلب ، وبين عدم الرغبة في الانتقام من أشخاص طالما وثق بِهم ، المسترخية في ممرات
روحه .
ما أصعب أن تصنُع عدم الاهتمام بمن يقابل
نظرة الحب والعشق والنجوى بنظرته إليك بعين واحدة ، لكنه من السهل أن تطـلـق قهقهة
طـويـلـة ولو في دواخلك ،لأنها تريحك ..