بقلم ولاء عماء قايد
الميكروباص ..وسيلةُ المواصلات المصرية
التى لا مفرّ منها
الزِّحامُ ..الشَمْسُ اللافِحَةُ…قطرات
العرق المتجمّعة فوق الجبين ...يومٌ طويلٌ وشاقٌ ..المشايّة العلويّة والسفليّة ..نفقُ
المُشَاة الممتدّ لشارع جيهان الرئيسي المملوء تَهِزُّهُ الأقدامُ السريعةُ كدباتِ
الجنودِ فى أرضِ المعركةِ ..!
الأصواتُ ،وصراخُ الأطفالِ وشدّة الحرارة
،كان صيفاً غريبَ الأطوار ،يدعوكَ لخلع ملابسك فى منتصف الطريق أمام المارة ...عن يمينكَ
الإشارة وعن يساركَ الطلبة يتزاحمون ، يجعلهم الاكتظاظ يخرجون عن شعورهم بألفاظ غير
مفهومة...
المشهد الأول
رَنَّ هاتفُ نور حيثُ أُمِّهِا تتصلُ
- آلو...
ردت نور بهرولة
- انتى يا نور فين دلوقتى
ردت الأم بنبرة عنفٍ وقلق ..فأجابت نور
بلهجة غريبة بالنسبة لها لعلّ الزحام قد جعل
منها كائناً عصبياً ...
- انا فى الميكروباص يا ماما
..
- سحبتى ملفك من الجامعة ؟؟!
- أيوا يا ماما !
وعلى عادة الميكروباصات فاجأَ نور صوتُ
الكمسرى وهو ينادى فى الجميع
- الأجرة يا استاذة ..الأجرة يا استاذ
!
- سلام يا ماما هاطلع الأجرة
وهنْا اللحظةُ الحاسمةُ ،أنّ نور فقدت حافظة
نقودها؛قد يكون بسبب تزاحم الطلبة ،والتَدَافُع من أجل الظفور بمقعد فى الميكروباص
....
- يا ربى ! .. مش لاقيه حافظة نقودي ..قِفْ
لو سمحت يا أُسطى
- مِشْ معاكوا فلوس بتركبوا ليه
..!
ردّ السائق بنبرة حنق وخنق
نظرت نور للسائق بملامح غاضبة ،لكنْها لم
تمتلكْ ردّاً مُنَاسباً عليه ؛لأنّها على عجلة من أمرها ،لكنْها رَمَّقت السائق بنظراتٍ
كالسَّهم المريد إِنْقضاضاً على العدو فى المعركة
...
- مناديل ياهانم
طفلة صغيرة تعرض علي نور عُبُوّة مناديل
صغيرة
لم يلفتْ صوت الصغيره إنتباه نور حيثُ كانت
شاردةً تفكر فى ضياع حافظة نقودها وفى أجواء ذلك اليوم الغريب الذى لا يريد الانتهاء
..
كَرَّرَت الطفلة السؤال مقتربة من نور
: "مناديل ياهانم"
فنظرت إليها نور بإندهاش وأحست نور بحُبْسَة
لسانها من شدّة المفاجأة فاخذت تحملق فيها
ثم قالت فى نفسها :"لقد حرمكِ الفقرُ من كلّ شيءٍ يا جميلة ،لكنه لم يسلبْ منكِ
الجمالَ "
- انتى مين ؟
- ببيع مناديل ..(ردّت فى تهتة)
- لا ... أقصد ما اسمك ؟!
- لا أعلم !
حزنت نور لجواب تلك الصغيره وتملّكَ الحزن
من قلبها ،وكادت الدمعة تفرُّ من عينيها..
كيف سلبت الحياه حقك ياجميلة لدرجة أنّكِ
لا تملكين أقلّ الحقوق ،وهى اعطائك اِسْماً يليقُ بجمالك وبرائتك
..
- هاسميكي اسم يناسبك ...من النهارده هاسميكى
وردة .
لم تستوعبْ الصغيره ما يدورُ حولها غير
أنها اكتفت بالإجابة بهزّ رأسها التى تُوحى
بالموافقة ..أرادت نور أنْ تعلم كل شي عن الطفلة قبل ان تمر تلك اللحظة أخرجت الطفله
من جيبها حافظة نقود كانت نفس حافظة نور
انْدهشت نور ..
- يا ربي ..دي بتاعتى جبتيها منين
...!
- لاقيتها هناك على الرصيف بس ملحقتش أناديلك
كنتى مستعجلة أوى !
ردت الطفلة بتلعثم وتوتر
اقتربت الطفلة من نور بوجه تتْسابُ البراءة
منه ثم أردفت
- على فكرا انا عندى جاكت زى دا...
أطلقت نور ضحكة فى الهواء متعجبة من تلك
البراءة
عندما نظرت نور للطفلة وجدتها شاردة وعلى
ما يبدو هناك شيء ما يدور برأسها
- بتفكرى فى ايه ياوردتى؟!
- يعنى ايه أم ؟!
ساد الصمت المكان وخيّم الحزن على الأجواء
ووقع السؤال على نور كاالصاعقة ..!
- يعنى انتى تقصدى انك معترفيش فين أمك
!
هزّت الطفلة رأسها بالموافقه ..ثم أردفت
:
- طالما لكل واحدة أم اشمعنى انا معنديش أم
!
لم تستطعْ نور أنْ تُجيبَ على سؤال الطفلة
..واكتفت بمسك يدها الصغيرة واخذت تسيرُ بها
كيف أنّ عالماً آخرَ داخل عالمنا ،لا نعرف
عنه سوى القليل ؟! وأنّهم عارٌ فى نظر المجتمع ،وكيف للمجتمع سلب حق تلك البراءة ؟!
.
- قوليلى يا وردة بتعملى ايه فى يومك
..
- ببيع مناديل
كادت الدمعة تفرُّ ،عندما أخبرتها أنّها
تنام على الارض لا يوجد فراشٌ مناسبٌ تَنام عليه ..
- عارفه
انا بزعل لما بتتعاملوا معانا على ان احنا نَّكِرَة.. ولما نقرب منكم بتبعدونا..
مع إن ممكن تطبطبوا علينا بكلمة حلوة .. احنا مالناش ذنب فى اللى احنا فيه .. قولولهم
والنبى يشتروا مننا المناديل ..وإننا بشر !
تركت الطفله ثوب البراءة و رغبت فى ثوبٍ آخرٍ أشدّ قسوة.. عندما
وضعتُ يدى على رأسها ..
تعجبت نور من كلام الصغيرة رغم قسوة المجتمع
،ومرارة الأيام عليها ..ما زال بها روح لتتحدث وتتحرك وتتجول ..فذهبت وردة ببراءتها
حتي ابتلعها الزحام