بقلم الأستاذ حميد طولست
لا نختلف بحال من الأحوال في أن حب المال
حقيقة إنسانية وواقع بشري، لكن يبدو أنه يفوق عند البعض كل التقديرات، ويتعدى كل الحدود
المسموحة والمفترضة والتي تحوّله من كونه أحد وسائل الحياة، إلى إله معبود يعسر التعامل
معه وتوظيفه ايجابيا كنعمة وحق مشروع، يفترض التمتع به وتقاسمه مع الآخرين بالقدر المتاح،
والإمكانية المعقولة من العدالة والمساوة والحكامة... حيث يبالغ الكثيرون في عبادته
وتمجيده وكنزه، فيتحول إلى قيد أعمى وسلاسل تكبل كل سبيل للتنمية، فتنقلب موازين الحياة
ومكاييل المنطق ومقاييس الضمير ويتم تغليف قيمه على القيم والأخلاق الإنسانية بما يتناسب
والطمع الذي جبل عليه الإنسان، فيبالغ الناس في عبادته بالادخار والكنز وأكل الإنسان
أخاه الإنسان بمسميّات مختلفة ،وذرائع زئبقيّة ينتفي معها الصدق وتموت روح الصفاء،
وتختنق المودة، وتحل الحسابات القائمة على المصالح المادية المجرّدة من العواطف حتى
بين اقرب الناس ، لما للمال من قدرة خطيرة على استيطان مراكز التفكير والتعشيش في الوعي
واللاوعي، واختراق العقل وتجميد القلب وتحنيط الحس الإنساني الصافي، وتغييب الضمير
والمنطق، وتحويل الإنسان إلى ما يشبه الروبوهات المتطورة التي لا تخرج عن المسارات
المحددة والخطوات المطلوبة منها، فتعمل بكل طاقاتها وقدراتها المكرّسة والمسخرّة لخدمة
سيد واحد لا شريك له ، هو المال..
وكلما تضخمت قيمة المال ، إلا وازداد الطمع
وفتح المرء ذراعيه للمزيد من الأملاك والأراضي والعقارات والأرصدة المعلنة منها والسرية،
وسقطت عنده كل الحسابات إلا المادية ، لأنّ المادة حين تطغى على نسق وأسلوب الحياة
ومنهجية التفكير وترتيب الأولويات تجمّد دفء العلاقات الإنسانية وتقتل فيها الصدق والعفوية
و روح التسامح.
وذلك في غمرة الإنشغال بخدمة السيد السائد،
قد يهمل الإنسان نفسه وبيته وأسرته واقرب المقربين له ، خاصة لدى نوعية من المتنفذين
الذين نشأوا نشأة عادية، وعاشوا حياة أقل من عادية إلى أن ابتسم لهم الحظ فصاروا أثرى
الأثرياء. مليارديرات يسكنون القصور ويقضون أجازاتهم في المنتجعات السويسرية والشواطئ
الباريسية ويتوسدون ريش النعام ويلتحفون بالحرير والديباج وينعمون بخيرات البلاد بلا
خوف أو وجل..
فهل نحلم عندما نطالب بالتدقيق في أملاك
بعض هؤلاء الذين تمرغوا في ثروات البلاد بعد أن كانوا معدمين. أم أننا نهلوس عندما
نطالب بإعادة بعض من تلك الأموال المختلسة لحياض المال العام؟!
سؤال نوجهه للجهات الرقابية والإصلاحية في البلاد التي
ستظل يدها مغلولة عن محاسبة هؤلاء وغيرهم في غياب تشريع »من أين لك هذا؟« الذي ربما
يقول قائل أنه سبق وأن طرح من قبل ، فأقول : لكنع لم يطرح بجدية ، رغم إلحاحية ذلك