بقلم الأستاذ علي أبو رابعة
ذلك التطرف الذي نشأ نتيجة وجود فراغ فكرى،
فتم سده بأفكار هدامة تستند على أجزاء من الحقيقة ،وليس إستنادا على الحقيقة بأكملها
..فكان الإقتناع التام ،نتيجة عدم وجود معرفة وفهم كاف ملم بالموضوع ..ذلك هو الهزل
،هو الفساد فى الأرض .
"وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض قالوا
إنما نحن مصلحون ..." الآية، سورة البقرة ..
نعم ..! إن الإشارة هنا للتطرف الديني
..وبالأخص لمن يظنون أنهم علماء دين بمجرد أنهم درسوا ،وتدارسوا ،وذاكروا ،وتذاكروا
،ولقنوا، وتلاقنوا كل أحكام ،وآداب الدين الإسلامي ..
فقد تكون عالما اسلاميا كبيرا، لكن قد تكون
أعمى كما كان من أعلم منك -من وجهة نظرى- أعمى
،والعبرة أستنبطها
من التاريخ الاسلامى ..
عبد الرحمن بن ملجم المرادى ،تلك الشخصية
التى إعتاد الناس فى اليمن أن يجدوه عن يمين معاذ بن جبل أو عن يساره أو خلفه ،تلك
الشخصية التى كانت تتلمذ على يد معاذ بن جبل. .يوم أن كان معاذ إمام العلماء ،والفتوى
فتواه ،والفقة فقهه ، والقضاء قضاءه ،وتلقين القرآن لا يكون إلا بين يديه ،حيث لم يكن
هناك مذاهب ،لعدم وجود من يضاهى معاذ فى علمه ..معاذ الذي أرسله النبى لليمن؛ كى يعلم
الناس أمور دينهم ،ويعلمهم القرآن ..أرسله النبى بعد تلك الثورة التى قامت ضده من قبل
الدائيين له ،فاشتكوا للنبى معاذا ؛لأن النبى هو الشخص الوحيد ،الذى لن يفر منه معاذ
الى نهاية الرواية او الحكاية او الحدث التاريخى ،فأرسله أيضا ليسد ديونه ،وفعلا سددها
فى عهد أبى بكر ..!
فأرسله النبى -أيضا -، وكرمه بهذه المكانة
لأنه يثق في شخص معاذ ..حيث ضرب يوما النبى على صدر معاذ ثم قال له :"الحمد لله
الذى وفق رسول رسول الله، إلى ما يرضى به الله ورسوله ."
وأيضا ذلك الحوار بين النبى ومعاذ - النبى
يسأل ومعاذ يجيب- :
-بماذا تقضى إن عرض عليك قضاء ؟
-أقضى بما فى كتاب الله .
-فإن لم يكن فى كتاب الله ؟
-أقضى بما قضى به الرسول.
-فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟!
-أجتهد رأيي ولا آلو .
فهذه إمارات تدل على مدى ثقة النبى فى علم
معاذ بالدين الاسلامي المحمدي ..ولو كانت العالمية وقتئذ لتيم النبى معاذا بها
.
نعود الى تلك الشخصية المنوطة بالمقال
..عبدالرحمن بن ملجم الذى قال عنه معاذ أنه كان يهضم القرآن هضما أكثر من مسلمى قريش
والمدينة على الرغم من حداثة سنه، وحداثه عهده بالاسلام .
وكان ابن ملجم يسجل ويدون كل ما يقضى به
معاذ بين الناس ..ويحفظ عنه الاحاديث النبوية الشريفة ..وابن ملجم أرسله عمر بن الخطاب
الى جيش الاسلام الذي كان يحاصر حصن بابليون بمصر على مشارف النيل بقيادة عمرو بن العاص
..كى يقرأ عليهم القرآن ويفسره لهم ويعلمهم اياه ..كى يخفف عنهم مشاغل الحرب وغمها
وهمها قليلا .
فهو شخصية تعلمت وتربت على يد معاذ وكان
تلميذا وخادما لمعاذ ،فحيث يسكن معاذ يكن،وحيث يستقر يقر ،وحيث يكون يلتجىء إليه حتى
يوم أن ترك اليمن قاصدا بيت الله الحرام رافقه .
لكنه انصاع وراء الشائعات التى كان يبثها
عبدالله بن سبأ فى عقول حديثى الاسلام ..بان علي بن طالب منع حدا من حدود الله وهو
اخذ القصاص ممن قتلوا عثمانا بالكوفة ،وحينما نقل على مقر الحكم للكوفة ،سادت شائعة
بأن أراد ان يكون قريبا ممن قتلوا عثمانا لانه من حرضهم على قتله من البداية ليخلو
له الجو يصبح أميرا للمؤمنين ..خزعبلات فى خزعبلات تملء عنان السماء وقتئذ ...فاعتقد
تلميذ معاذ بن جبل أن علي كافرا ،ولا يؤمن بكتاب الله، فاراد قتله؛ ليحمى كتاب الله
ذلك الرجل عبد الرحمن بن ملجم المرادى ،وصديق
له حديث العهد بالاسلام مثله يدعى شبيب، تربصوا لأمير المؤمنين على بن أبى طالب فجرا
،حال شبيب قتله ،لكن ابن أبى طالب كشف أمره فضربه فأسقطه أرضا ،لكن ابن ملجم جاء من
الخلف وطعنه طعنة غدر ......وقال :"تقربت بقتله الى الله
."
ماذا تقول فى ذلك ؟ ..أليس ذلك تطرف ،ناجم
عن عماء فكرى ..أن تظن أنك الأعرف والأعلم والأزكى والأصوب والأفضل
.
. وهذه هى آخر محطة، قادنا إليها قطار التشدد الدينى
،ونكران ما يسمى بالعقل، والإتباع الأعمى ،وتسيس الفقة ..إلى آخره من سمات تدل على
أن مالكها ضرير أعمى .
يرهبون الناس فى المساجد ،ويريدون قتل المسيحيين،
بل ونفيهم من الأوطان .. يحملون الحقد والغل لهم ،لدرجة أن أحد هؤلاء العمى، قال لى
يوما :" لماذا لا نفرض عليهم الجزية".
يكونون جماعات سرية ،من أجل طلب السلطة
..ويضحكون، بل يخدعون البلهلوانات ،الذين ينضمون إليهم باسم الدين، ونشر الدعوة الاسلامية
..هؤلاء لا يقبلون النقد ،ولا يقبلون المناقشات، والمحاورات ..يكرهون المفكرين ،لن
أحدثكم عن كم الاتهامات ومحاولات الاغتيالات لطه حسين ..وتهديد العقاد بالقتل ،وتهديد
بل محاولة قتل نجيب محفوظ ..إلى آخر ما تحمله المحادثة من تذكير
.
فالمنهج واضح وصريح ...هو اشباع رغبة السلطة
باسم الحاكمية الالهية ،ونتيجة كل ما تم سرده،بل نثره بطريقة مدمجة ،أن انتشرت العنصرية
فى بلاد الغرب التى يعادونها ،ويتمنون قتلهم، لا قتالهم ،ولا هدايتهم ..فبات الشاب
الامريكي يترك كل البنات العاريات من حوله ويطارد المحجبات المسلمات ..بل انظر الى
باريس بلد الجمال، وأكبر دولة يسكنها مسلمون فى اوروبا ،دهس- منذ يومين- رجل باريسي
مسلمين خارجين من أحد المساجد ..والايام ستنثر لنا الكثير ، لأن هذه بوادر شر، لا خير
فيها .
هذا كله فوق عاتق كل متشدد، وكل مسلم يرى
أنه كامل الدين ،والوسط المحيط به ذو دين منقوص ..لا عندك إنت وهو ،أنتم لا ترونى،
ولا تبغون سماعى ..وبالتالى أنتم صم بكم عمى والسلام !
إن المرضى بالاسلاموفوبيا متطرفون ..وكل
أفعالهم تلك حمق كبير الكبير ،فإن التطرف لا يقف -بتاتا- على كتف الإسلام وكفى ..بل
هو فيرس ينتشر فى فضاء هذا العالم عندما يركد هواء الفكر قليلا ..فينتشر السقام فى
الفكر ،وقد يتلاشي ،فيحل محله أفكار سلبية تقود للإنتحار . ..
-أنت المذنب يا سيد ..طالما لا ترى إلا أحقية دينك
دينك بدايته ونهايته ،يأمر بعبادة إله،
لا يراه أحد
أن تعبده بقلبك ،وعقلك، وروحك
ولو سألتك أين الله ؟! ..فى السماء لكان
جوابك
وهذه هى إجابة صديقنا المسلم أيضا ،وركيزة
عقيدته
المسيح يدعو لعبادة نفس إله محمد
ومحمد جاء فى العهد القديم مذكوراً كبشرى
للعالمين
أرى أفكارك أصبحت رتيبة ..خالية من أى حياة
بسبب أنك فى كل مناظرة تغدوها لا تفكر إلا
فى النصر لنفسك
ولا تفكر فى إحقاق الحق ،وإبطال الباطل
نسيت قواعد وأسس الديمقراطية ومبادىء الحرية
التى طالما طالبت بهما ،وتبوقت كل الأبواق
من أجلهما
هناك اختلاف بين البشر ،إختلاف فى كل شئ
إختلاف فى طريقة الأكل ..فى طريقة النوم
فى نوعية الاحلام والاهداف ..إختلاف فى
طريقة التفكير
حتى اسلوب الكلام ..اختلاف فى اللون ،فى
الشكل
فى المكانة الاجتماعية ،فى الذوق ،فى الحاجات
والرغبات..الخ
لا يوجد توافق بين البشر ..بل يوجد تكامل
بينهم
ويجب أن تحترم هذا التكامل الذي ينبع من
صنبور الاختلاف
فيجب أن تجعل صدرك متسعا بحجم عظمة غاية
المناظرة
غايتها التفاهم ،والوصول للحق ..فالحق للحق
..وللأكثر علما
بل للأكثر إصلاحا وبناء
......
وختاما أستعين بصورة من خطاب آخر من روايتى
التى على وشك الصدور بعنوان الصديقان ..
9 يوليو
عزيزى كوشيان
إنّ ما يحدث فى هذا الزمان -يا كوشيان-
،يذكرنى بيوم أن طار بى الخيال ،أنّى أريد إختراع طائرة من النوع الذي يستعملونه فى
المطارات ،مع أنى لم أدرس هندسة الطيران ،ولم أقرأ كتاباً واحداً عنها ،لكنْ الفكرةُ
أعجبتنى ،فشرعت فى إختراع تلك الطائرة ،وبالفعل نجحت فى إختراعها ،لكنى تفاجئت بانفجار
محركها ،لحظة تدشينها ،لا أعلم لماذا ؟! ..لأنى تخليت أنى أتقنت الصنع من لا شئ
.
حينما أفاق عقلى من تخيلاته ،استنبط شيئاً
-إلى حد ما -مخيفاً ،أنّى -دائماً- أريد أن أفعل كل شئ ،بدون سابق علم أو دراسة او
بحث ،فقط أرى أن فلاناً كتبَ مقالاً أدبياً جميلاً ،فأطفقُ -بمجرد الانتهاء من القراءة
- بأن أقلد الأسلوب والهدف والدافع من وراء كتابة هذا المقال ،ولا أنقل الكلام بشاكلته
او بعينه ،لكونى مغروراً كما تعرف !..وهذا هو حال شخصى المثقف ،فما بالك بالذين يدعون
الثقافة ،الذين ينقلون -بعد أن ينخضعون لها - حملات التشكيك فى التاريخ
،ولا يدرون أن هذا
الكلام من وراءه مصالح خاصة ،يبغيها
صاحبها المدشن المبتدأ بها ،حيث لا يذكرون
الحقيقة كاملة ،وعلى إثرها يكن التحريف والتضليل
.. نحن فى زمن إحراق كتب الماضى ،من أجل الوقوع فى فخ ،أعده لنا الحاملون لسياسات
،ومبادئ عكس السياسات ،والمبادئ التى كانت فى الماضى ..وهذه هى قمة التطرف
.
تحياتي
صديقك ريكاردو .
إحذروا إن الخطر قادم لا محالة..بل يحيط
بنا لا إنكار لذلك ..فيحب أن نقرأ وأن نتعلم فلسفة الإختلاف ..وأن نتفقه فى الدين حق
التفقه ..وأن نقرأ ثم نقرأ ..وإذا قرأنا التنديد بشئ يجب أن نبحث عن العكس ،ثم نحكم
بعقولنا ،لا بعقل غيرنا .