بقلم الأستاذ حميد طولست
يموت
العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله ، و تبقى ذكرهم حي على
الأرض ، قوة تحرك ، و رابطة متينة تجمع ، و نور ساطع يهدي ، وعطر فواح ينعش ، وهذه هي العظمة ، وذاك هو خلودا ، فكل ما
يخلفه العظماء من ميراث وآثار مشهودة ، هي أمجاد يُعتز ويُفخر بها ، وأعمال جليلة يُنتفع
بها ، وأفكار نيرة يُهتدى بها من بعدهم ، كما قال الشاعر:
المرء بعد الموت أحدوثة … يفنى و تبقى منه
آثاره
فأحسن الحالات حال امرئ … تطيب
بعد الموت أخبــاره
لقد ترجلت أيها الوطن الاستثنائي ، والفنان
الاستثنائي ، والمسرحي الاستثنائي ، والسنمائي الاستثنائي ، ترجلت يا وحش الفلاة عن
فرسك في وقت ما زال الركح في أشد الحاجة إليك ،
خاصة أن الاستثنائيين أمثالك لا يعوضون ..
ولا أخالني مسرفاً إن تمنيت أن تتذوقَ الأجيال
الشابة وسامة أوصافك ، وصدق أقوالك ، وتميز أفعالك ، حتى يعلموا مقدار ما خسرته الساحة
الفنية من قيمة ، وليعرفوا ما فقد الوطن من ذاكرة وطنية ، جديرة بالاحتفاء والتكريم
، ومقدار ما خسره الذين عرفوك عن قرب ، وما تعلمه من زاملك من غزير مزاياك ، وشرفوا
بتسجيل أسمائهم معك في سجل وأصداء حضورك المتميز الذي يستحق منا جميعا أن نؤلف فيها
وعنها كتبا ترصد وتتحدث عن مسيرتك الفنية النضالية ، وتكفيك رائعتك افداعية "أزلية
سيف بن ذي يزن" ، ولازمتها التي رددها وراءك في السبعينات ، عشاقك الذين أبهرتهم
بصوتك الجهور المتميز قائلا :"سموني وحش الفلا واسمي بن ذي يزن ، رموني في الخلاء
، وأحماني الخالق الرحمان " المسلسل الاذاعي التي تستحق عليه عن جدارة ، أن يقام
لك تمثال ، بل تماثيل تليق بمقامك وانجازاتك
، وفي مدخل كل قاعة كل مسرح أو سينما ، لتذكير الناشئة بمن أمتع المغاربة كافة
على مدى سنين بلازمته " أنا وحش الفلاة الذي " .
عزاؤنا في رحيلك أيها المناضل الصلب الذي
خسر الفن الصادق بوفاتك أحد أبرز عناصر النقاء والمثابرة ، هو فيما اذخرت عند ربك مما
قدمت يداك من باقيات غزير إنتاجاتك ، وصالحات ما فرجت بها من كرب المهمومين الكادحين ، الذين كانت مسرحياتك ومسلسلاتك وإيداعياتك لهم
تسلية وتخفيفا من أوجاعِهم ولواعجهم ، والتي لا يسعني هنا ، إلا أن أقول في حقك ، بعد
قول رب العالمين الذي : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي
في عبادي وأدخلي جنتي" ، لقد تركت برحيلك فراغا في النقاء والزهد والوفاء والتواضع
والالتزام من الصعب أن يملأه غيرك بعدك ، لقد خسرناك بحق ومن الصعوبة بمكان تعويضك
، رحمة الله عليك ، وتغمدك الله بالرحمة والمغفرة .
و لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ، وإنا
لله وإنا إليه راجعون ..