مراد بنيف
ولد رشيد سكيرج في بداية ثلاتينيات القرن الماضي من أم طانجاوية، وأب علامة في المجال الفقهي محمد بن الحاج العياشي سكيرج، حيث ترعرع رشيد وسط جو ديني، حفظ القرآن وبلغ فيه تسع ختمات والمتون اللغوية والفقهية، وشق طريقه إلى المدرسة العصرية، وكان من مؤسسي الأمن الوطني سنة 1956، حيث بوشر بتأسيسها مباشرة بعد استقلال المغرب من الإستعمار الإسباني والفرنسي، وكان من عداد الشباب الفياض المتحمس لخدمة بلده والسعي في سبيل مصالحها، وكان اتحاديا رافضا أن يكون الجهاز مخصّصا للقمع والضرب، ما جعل الوفاق يغيب بينه وبين أفقير والدليمي، بفعل علاقه الخاصة مع المرحوم الشهيد المهدي بنبركة، لينتقل بعد ذلك للإشتغال بالمخابرات المغربية " الكاب 1 " داخل قسم مكافحة التخريب،واتهم بأنه كان جاسوسا للإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية داخل جهار الكاب 1 الذي يعتبر أقوى جهاز سري قبل نهاية الستينات، حيث كان له مكتب في نفس القسم الذي خصص فيه مكتب لكل من الجنرال أوفقير والكولونيل الدليمي، حيث أشار ضابط المخابرات السابق أحمد البخاري الذي كان متهما من قبل معتقلين سابقين في دار المقري أنه كان مكلفا بالتعذيب بالكهرباء، - أشار- في مذكراته إلى أن رشيد سكيرج كان يعمل في قسم الشؤون المالية والإدارية في المخابرات، الشيء الذي كان يجعل الترتيبات المالية للعمليات السرية التي كان يقوم بها أوفقير عن طريق ضباط سريين مدربين أمرا مستحيلا.. ..
كانت البلاد آنداك تعرف صراع بين تيارين، تيار يريد الإنتصار
للإستمرارية الفرنسية وسيطرة شركاتها على أهم القطاعات، وتيار آخر ذو أبعاد وطنية
يصبوا إلى تحرير كل القطاعات والأجهزة من بقايا التأثير الفرنسي، ومن نزعة التحكم
التي كانت تمراس من طرف الملك الراحل الحسن التاني حينما كان وليا للعهد، رفقة
الفريق الذي كان يتكون من أوفقير والدليمي وأحرضان، الخطيب ومجموعة من الوجوه التي
كانت لا تعصى فيما تؤمر، وكان الراحل رشيد سكيرج يفضح تجاوزات الأجهزة الأمنية
حينها، خاصة جهاز الكاب 1 التي قيل عنه أنه عصابة كانت تسرق وتقتل وتنهب، تختطف
وتختال، ودخل مع الجنرالان الجلادان أوفقير و الدليمي في مواجهات عنيفة، ومنعهما
من ارتكاب فظائع كبيرة، كان شاهدا على كثير من جرائم " الكاب 1 " التي
واجه منفذيها بشجاعة بالغة، منع الكثير وفضح الأكثر، ليكون بذلك شاهدا على حقبة
سوداء من تاريخ المغرب، أبرزها اغتيال المناضل محمد الحريزي الذي أدى ثمن قربه من
المهدي بنبركة غاليا، إذ فقد حياته باغتياله رفقة زوجته وابنته الصغيرة التي لم
يتجاوز عمرها 3 سنوات، ليتعرض بذلك رشيد إلى العديد من محاولة اغتياله، لكن القدر
شاء أن يعيش أكبر من جلاديه
..
أمام هذه الأوضاع حيث محاولات الإغتيال، قرر الفرار إلى الجزائر،
فتمكن من ذلك، ولأن عمله كان سري، لم يستطع أحد من أسرته ومقربيه أن يفهم لماذا
غادر البلاد بتلك الطريقة، رغم أنه كان يعمل في محيط الديوان الملكي، وكان الأمر
متفهما بسبب العداوة التي كان يكنها له الكولونيل الدليمي الذي راكم سلطات أمنية
واسعة،
خرج رشيد من المغرب سنة 1962 رافضا الحديث مع أي جهة خوفا من أن
تتقفى المخابرات المغربية أثره، وكان حريصا على تجنبه الحديث مع الناس في المدة
التي قضاها بالجزائر، ناجيا بذلك من فرقة الموت التي أرسلها الدليمي تقتفي آثار
أنفاسه، والتي كانت تفشل دائما لأن رشيد كان ذكيا يختار الوقت المناسب لتغيير
مكانه, ويتحرك في الوقت المناسب للهروب، بالرغم من أن الضباط السريين الذين كانوا
يتعقبونه لمنعه شهاداته وما يعرف أن ينتشر، كانوا يعرفون طبائعه الشخصية، استطاع
الهروب إلى فرنسا، حيث كانت فرقة الموت مستمرة في البحث عنه لتصفيته، وكان شديد
الحرص على اخفاء آثاره، فبرغم من احترافية القتلة المقتفون آثاره، لم ينجحوا في
العثور ولو على خيط يقود إليه بباريس الفرنسية، فتقرر ارسال كوموندوا من أشهر
القتلة داخل المخابرات، لكنه فشل في ذلك، لأن رشيد سكيرج كان قد اتخذ الإحتياطات
اللازمة وهو شاب لم يتجاوز 27 سنة من عمره .. كان يعرف طريقة اشتغالهم ..
وعندما اختفى المهدي بنبركة سنة 1965 من أمام مطعم " ليب
" الشهير في فرنسا، اهتم الرأي العام الدولي والصحافة بما يقع في المغرب،
خاصة وأن المهدي كان أكبر معارض اشتراكي للملك الحسن الثاني، ووجهت أصابع الإتهام
لأجهزة السرية المغربية، وبدأت تكتب مقالات بلغات عديدة تتحدث عن وجود جهاز سري
وراء اختفاء السياسيين المعارضين، في ذلك الوقت كان رشيد سكيرج مستقرا بالعاصمة
الفرنسية باريس، مختفيا عن الأنظار، محاولا اخفاء هويته لأسابيع وشهور وسنين حتى
لا تصل إليه يد الكولونيل الدليمي، لم يتمالك رشيد سكيرج نفسه وهو يرى قضية المهدي
تكبر يوم بعد يوم منذ أكتوبر 1965، ليقرر الخروج بشكل علني ما بين 1966و 1967 بوجه
مكشوف، ليشهد ضد الكولونيل الدليمي في محكمة فرنسية كان قضايها " بيـــريز
" هو الذي يبث في ملف اختفاء المهدي بنبركة من فوق التراب الفرنسي، ويتابع
علاقة الجنرال أوفقير والكولونيل الدليمي بإخفاء المهدي، وحينها خرج رشيد سكيرج
ليعلنها مدوية، حيث قرر أن يشهد أمام هذا القاضي ويفجر قنبلة وجود جهاز سري في
المغرب اسمه " الكاب 1 " مهمته تصفية المعارضين السياسيين داخل المغرب،
وكانت تلك رصاصة أطلقها رشيد سكيرج في صدر جهاز المخابرات المغربي، وفي صدر أوفيير
والدليمي، حيث كان يعرف رشيد كل أقسام المخابرات بأسمائهم وأماكنهم، والضباط
السريين جميعا، وكان هم أوفقير والدليمي في تلك الظروف اسكات رشيد إلى الأبد لأنه
يشكل خطرا عليهما وعلى الفرق التي شهد عنها عمليات اختطاف سابقة، وكان رشيد أنداك
قد مزق كل أوراق الرجوع إلى المغرب، حيث سبب زلزال للدليمي بكشفه عن وجود جهاز
الكاب 1، وأعطى للقاضي الفرنسي في قلب باريس أسماء المعتقلات السرية، وإفادات عن
مقر تواجد هذا المقر، وطريقة تدبيره..
وكانت شهادته قنبلة في المغرب وفرنسا، حيث كان الدليمي مجبرا على حضور المحاكمة رغم سلطته النافذة التي لم تستطع أن تضمن له معاملة تفضيلية، مسلما نفسه للعدالة امتثالاً لمذكرة التوقيف العالمية الصادرة ضده، وكانت شهادة رشيد شجاعة و وازنة هزت الرأي العام الفرنسي والمغربي، وهكذا خرج رشيد عن صمته وسريته، حيث ساعدته تلك الشهادة بأن يحظى بحياة عادية على الأقل في فرنسا، والتي بدأها سنة 1967، وحتى الصحافيين الفرنسين الذين نقلوا أطوار المحاكمة، اعتبروا رشيد سكيرج أول مغربي يفجر قضية وجود " الكاب 1" و "دار المقري" بالرباط التي كانت عبارة عن قصر بناه التهامي المقري منذوب المالية في عهد الحماية الفرنسية بعيدا عن صخب المدينة وضجيجها، الذي سيتحول فيما بعد إلى مكان لإحتجاز وتعذيب "الخصوم الكبار" من المعارضين السياسيين ، والتي قد تبدأ ببتر بعض الأعضاء وتنتهي بالتصفية الجسدية، ومقرات التعذيب الأخرى التي بوشرت فيها عمليات التعذيب وتصفية،
وكانت شهادته قنبلة في المغرب وفرنسا، حيث كان الدليمي مجبرا على حضور المحاكمة رغم سلطته النافذة التي لم تستطع أن تضمن له معاملة تفضيلية، مسلما نفسه للعدالة امتثالاً لمذكرة التوقيف العالمية الصادرة ضده، وكانت شهادة رشيد شجاعة و وازنة هزت الرأي العام الفرنسي والمغربي، وهكذا خرج رشيد عن صمته وسريته، حيث ساعدته تلك الشهادة بأن يحظى بحياة عادية على الأقل في فرنسا، والتي بدأها سنة 1967، وحتى الصحافيين الفرنسين الذين نقلوا أطوار المحاكمة، اعتبروا رشيد سكيرج أول مغربي يفجر قضية وجود " الكاب 1" و "دار المقري" بالرباط التي كانت عبارة عن قصر بناه التهامي المقري منذوب المالية في عهد الحماية الفرنسية بعيدا عن صخب المدينة وضجيجها، الذي سيتحول فيما بعد إلى مكان لإحتجاز وتعذيب "الخصوم الكبار" من المعارضين السياسيين ، والتي قد تبدأ ببتر بعض الأعضاء وتنتهي بالتصفية الجسدية، ومقرات التعذيب الأخرى التي بوشرت فيها عمليات التعذيب وتصفية،
وبذلك يكون قد خرج عن صمته، و بلغ رسالته، وأنهى حربه التي بدأها
في صراع مع الزمن، بعد أن أمضى خمسة سنوات من الإختفاء والهروب بسرية من أيدي
الدليمي الطويلة التي لم تنجح في اغتياله، وجعلت المحكمة الفرنسية رشيد سكيرج يحضى
بحماية تلقائية من الدليمي، إذ بعد إخلاء سبيل الدليمي وعودته إلى المغرب ، عاش
سكيرج حياة جديدة بإنتهاء و حل الجهاز " كاب 1 " واستطاع سكيرج أن يتنفس
الحرية، ويبدأ حياة جديدة حيث تزوج وأنجب أبناء، واشتغل بالترجمة والصحافة رفقة
أصدقاء معارضين، وظل لغز عودته يثير الكثير من أصدقائه الذين عادوا في فترة
المصالحة على رأسهم الفقيه البصري، لكن الإختلاف كان سيد الموقف حيث أن العائدون
إلى الوطن في فترة المصالحة معظمهم كانوا فارين من أحكام الإعدام والمؤبد غيابيا،
بعكس رشيد سكيرج الذي لم يكن فارا من حكم غيابي، ولم يعد سكيرج إلى الوطن إلا وهو
في صندوق الأموات بعدما لبى نداء ربه بفرنسا عن عمر يناهز 85 عام في الأسبوع
الماضي، بعد 54 سنة قضاها في المنفى يطارد كابوس موت الذاكرة وقد تم يوم السبت 19
نونبر 2016 بمدينة طنجة تشيع جنازة المناضل اليساري رشيد سكيرج، من مسجد محمد
الخامس نحو مقبرة "سيدي عمر" حيث وُوري جثمانُ الرّاحل الثرى، بعد أن
وصل يومه الجمعة 18 نونبر 2016 إلى مطار ابن بطوطة قادما إليه من فرنسا، و اجمعت
حول قبره مختلف مكونات أطياف اليسار المغربي يصعب اجتماعها إلا على حزن لرحيل رجل
عظيم ، حيث شهد العديد من المناضلين على رأسهم محمد بن سعيد ايت يدر، و محمد
اليازغي، وعبد الرحمان بنعمرو، أن الراحل كان من رجالات المغرب الكبار ممن لن يجود
الزمن بأمثالهم في الوطنية والنضال، وقصته تستحق أن تحكى للأجيال ..
رحمه الله
رحمه الله