بقلم الأستاذ حميد طولست
عبارة " الإنسان ابن بيئته "
مقولة حفظناها عن ظهر قلب خلال مراحل دراستنا بالإعدادي ، وتأكدت لدينا من خلال دروس
التربية الإسلامية وخاصة الحديث الشريف ( يولد المولود على الفطرة وأبواه يهودانه أو
ينصرانه أو يمجسانه ) ، ثم ترسخت حين تلقينا
بعض مبادئ الفلسفة وعلم النفس ;والاجتماع الذي يؤكد فقهاؤه على أن البيئة تلعب الدور
الأساس في تشكيل وجدان الإنسان ، وتجعله نفسيا أكثر انتماءا للوسط الذي عاش فيه ، وتفتح
وعيه من خلاله ، فيتأثر بوالديه في كل شيء حتى التفكير والمهنة . إنها ظاهرة طبيعية
غير قاصرة على أبناء الوزراء والمدراء وعلية القوم فقط كما يدعي بعض المغرضين ، فهناك
أبناء مهن كثيرة نرى أبناءهم يسيرون على نفس الدرب ، ولسان حالهم يقول " حرفة
بوك لا يغلبوك" مثل الأطباء والأساتذة والإعلاميين والمهندسين والنجارة والحدادين
والميكانيكيين والفلاحة وغيرهم كثير .
فإذا كان فعلا للبيئة كل هذا الدور المهم
والمؤثر على شخصية الإنسان ومستقبله الوظيفي والاجتماعي ، فما ذا بقي للموهبة كدور
فعال في كل المجالات ؟ أليس لها تأثيرها الخطير هي الأخرى ؟؟؟ فكما هو معروف بين عامة
الناس وخاصتها ، مثقفيها وأمييها ،أنه لا يمكن لابن النجار أن يبرع في مهنة أبيه ما
لم يكتسب مهارة و موهبة ، كما أنه لا يمكن لابن المهندس أن يزاول مهنة والده إلا بعد
التخرج من أحد المعاهد العليا للهندسة ، ورغم ذلك
فكثيرون هم أولئك الذين رغبوا في التشبه بآبائهم وامتهان مهنهم على بساطتها
، فبنوا طموحهم خطوة خطوة ، وتخرجوا بتقديرات جيدة ، وشواهد عالية ، و مؤهلات فائقة
، وطرقوا كل مجالات الشغل والوظيفة دون جدوى
، لأنهم أبناء أحياء لا يؤمن جانبهم ولا يتخرج منها مسؤولون حكوميون، وبكل بساطة لأنهم
لم يرضعوا بملعقة فضية كأبناء الذوات الذين يسهل عليهم ولوج المؤسسات الحكومية ، المغلقة أبوابها في وجوه غيرهم
، حتى باتت مقولة " الأقربون أولى بالمعروف " شرعا يتم تطبيقه في شتى المحافل ، باستحقاق أو من غيره ،
ودون التفكير حقيقة في الموهبة وملكاتها؛فكم من ابن وزير -عندهم في الضفة الأخرى -
لم يستطع الحصول على وظيفة محترمة لأنه لا يتوفر على مؤهلات محترمة تمكنه من ذاك المنصب أو تلك المهنة المحترمة ، ولم
يشفع له موقع والده المرموق جدا .
يبدو أن قانون الموارثة عندنا ، يقتصر على
السلطة السياسية فقط ، حيث تطل علينا أسماء تنضاف إلى كتيبة أبناء المرموقين ، فيكفي
أن يكون والدك وزيرا لتصبح وزيرا ، وأن يكون زوجك برلمانيا لتقتحمي بقدرة قادر القبة
البرلمانية وتقرري في مصير الذين ليس لهم في الوزارات أقرباء ، ويكفي أن يكون شقيقك
موظفا ساميا لتتحول إلى مسؤول كبير في عالم إدارة الشأن العام بلا دراسة ولا موهبة
ولا هم يحزنون ، كما هو حاصل هذه الأيام في الوائح الإنتخابية التي أحتلها المسنودين
من أهليهم وأقربائهم ، لافرق في ذلك بين حزب مخزني أو آخر إشتراكي أو شيوعي أو ذي مرجعية
إسلامية ، فهم في ذالك سواء.
فالسؤال الذي يطرح نفسه وبحدة يتعلق بظاهرة
التوريث بكل أنواعه وهل تحولت عندنا إلى ظاهرة
ثبتت أقدامها في الميدان السياسي؟ وهل حقا أن هناك محاولات للدفع بالأبناء و الأحفاد وغيرهم من الأقرباء والمعارف ، إلى وراثة مناصب
أهليهم وذويهم وأقربائهم ؟ أم أن المسألة مجرد حالات عابرة ستزول مع الوقت؟.
ليس الخوف من حالات التوريث هته– رغم كثرتها-
بل الخوف كل الخوف ، يكمن في التسليم بقانونيتها ، دون الاكتراث بما يحلم به بقية الشعب وتتطلع إليه
نخبه التي حرمها الحظ من الأب أو الأخ أو القريب
ذي المنصب السامي ، ما يخلق حالة من اليأس وهدر الطاقات والتفريض في المواهب التي تزخر
بها البلاد ، والتي تركب البحر بحثا عن مجالات الإبداع .