بقلم الأستاذ حميد طولست
موضوع من وحي العالم العلامة أحمد زويل.
ليس بالضرورة أن يكون الإنسان ضالعا في
العلم أو فيلسوفا لكي يعرف، بل ويتيقن، بأنه "ليس لأحد من البشر من خلود في هذه
الدنيا الفانية ، ويتكون لديه إيمان قاطع بأن
النفس البشرية ذائقة الموت كباقي الأرواح وكأن لم تغن فيها ، وانه إذا جاء أجلها لا
تسْتَأْخِر سَاعَةً وَلا تسْتَقْدِم، وأن ساعتها آتية لا ريب فيها، وأنه ما يكون لها
أن تموت إلا بإذن ربها ، ودون أن تدري بأي أرض تموت ، لكنها ، وبدون ريب ، على آلة
حدباء محمولة مهما كان وضعها ووضعيتها، لأنها لا تمْلِكُ لحالها ضَرًّا وَلا نَفْعًا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لها ، ورغم كل ذلك فإن الأسئلة الكثيرة تتطاير في رأس كل
بني البشر حول ماهية الموت، ومرحلة ما بعد فقد الحياة، ويطرحون السؤال الأزلي: لماذا
نموت؟ وهل يفقد الميت أحاسيسه كلها بعد الموت، فلا يشعر بالزمن ولا بالمكان ولا بظلمة
القبر وضيقه؟ وهل يعلم ما يدور حوله وهو ميت، أم لا يعي بذلك كله؟. أسئلة كثيرة محيرة
يتجنب الكثيرون الخوض في طرحها، ويعتبرونها من الغيبيات، خوفا أو تهيبا من قاهر اللذان،
ومبطل حيلةَ الدهاة، ومعدم قوة الأقوياء، وناسف بنيان الأغنياء، الذي اصطلح على تسميته
بأسماء عديدة منها المنون، والحتف، والحِمام، والسام، والوفاة، والردى، والهلاك، لما
فيه من قضاء مبرم، وناموس نافذ، وغموض مذهل، وغاية محتومة، ووعد إلهي غالب، يفضي إلى
نهاية محتومة، لا تغني معها خزائن الأرض عند حشرجة الصدر المؤذنة بانقضاء الآجال، والذي
أحسن الشاعر العربي الجاهلي "حاتم الطائي" في تصوير جبروته بقوله:
أماوى ما يغني الثراء عن الفتى؛؛ إذا حشرجت
يوماً وضاق بها الصدر.
ورغم اختلاف معرفة الناس بالکون وبأنفسهم
وما حولهما من اختلاف مبعثه عمق وحدة الإدراک ، والنفاذ إلی دواخل الأمور وبواطن ما
يختلجون من أحاسيس الخوف من الموت أو تقبل فكرته، وكيفية قهره، التي تفيض تارة باللذة
والفرح، وتارة بالحزن والألم، والتي تفرقوا في نظرتهم إليها، ولم تكن رؤاهم واحدة موحدة
، ولم يكن مفهومهم لها وعنها مفهوماً واحداً. فقد توقف الفلاسفة عند مسألها ، وتعددت
وتنوعت الفلسفات التي أوصلوتهم إلى أن الإنسان
لا يعيش ليموت بل يموت ليعيش، وأن هناك حياة أخرى في ذاكرة الزمن مع من أحبوه واستفادوا
من بصماته وحكاياته في الحياة. وتعتبر الفلسفة البوذية من الفلسفات التي حاربت فكرة
الخوف من الموت، حيث أن الحياة عند البوذيين ، هي تجربة تمر بها النفس البشرية التي
هي موجودة قبل الميلاد ومستمرة بعد الموت، ويعتبرون أن سبب الموت ليس المرض وإنما الميلاد
، وان الموت ، هو احد المكونات الأساسية للحياة لا يأخذ شكلاً واحداً بتوقف القلب،
وبرودة الجسد، وانقطاع التنفس، فأقسى أنواع الموت عندهم هو أن يعد الإنسان من الإحياء
وهو في الحقيقة في عداد الأموات حين تبرد مشاعره وتتبلد عواطفه، فبرود المشاعر بين
الأم وأبنائها موت ، وانقطاع صلة الأرحام موت ، وتوقف مشاعر الحب بين الزوجين موت ،
ونجد أن الموت عند بعض الشعراء هي هديّة من السماء للمنهكين، وباب خلاص لكل المعذبين،
كما في قول الشاعر العربي:
الموت باب وكل الناس داخله -- فليت شعري
بعد الباب ما الدار باب يتوجهون من خلالها نحو السماء، حيث السلام والخلود، بعيدا عما
تعلق به بنو البشر من هموم وأحزان الحياة، التي وصفها فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري
في بيته الشهير:
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد.
وهي عند البعض الآخر، أمر عشوائي شبيه بحيوان
أعشى يتخبط في سيره، فيصيب فرداً فيموت ويخطئ آخر فيعمِّر إلى أرذل العمر، كما قال
زهير بن أبي سلمى:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب** تُمِتْهُ
ومن يخطئ يعمِّر فيهرم.
وهو عند فئة ثالثة، حيوان مفترس ينقض على
الطريدة يفتك بها دون أن يقوى أحد على رد غائلته، فلا التمائم تنفع، ولا التعاويذ تجدي
أمام تلك القوة الحتمية المعلقة للموت والاستسلام العاجز: للإنسان، كما في صف
"أبي ذؤيب الهذلي" الرائع:
وإذا المنية أنشبت أظفارها** ألفيت كل تميمة
لا تنفع.
وهو، أمر حتمي لا يستطيع الفرد دفعه كما
في قول الشيخ محمد بن عبد الله بن عثيمين :
هـو الموتُ مـا منه مَلاذٌ ومهربُ--متى
حُطَّ ذا عن نَعْشِهِ ذاك يركبُ.
وهو عند طرفة ابن العبد: عادل لا يترك أحداً
ولا يميز بين غني و فقير ويساوي بين الناس كافة، لا تؤثر في نفاذ أحكام مكانة المرء
أو منزلته بين القوم:
أرى الموت لا يُرْعى على ذي جلالة *و إن
كان في الدنيا عزيزاً بِمَقْعَدِ.
بينما يبقى الموت عند غير هؤلاء، واحداً
في كل أحواله مهما تعددت أسبابه، تبعا للمقولة المشهورة "تتعدّد الأسباب والموتُ
واحد"، التي نردّدها كثيرا دون أن نعرف أصلها الذي ذكر في البيت الشعر المعروف
:
من لم يمت بالسيف مات بغيره* تعدّدت الأسباب
و الموت واحد. والذي لا نتمعّن فيه بما يجب ، فترى الواحد منا لا يستطيع آلام الفقد
وكبح مجرد التفكير فيه، من شحنات انفعال وضغط نفسي وعصبي يؤثر على نفسه ويدميها، ولا
يتمكن من دفعها إلا بما نقوم به من طقوس نعي الميت -كما جرت العادة وأمر الدين- بالدفن
والتكريم، والحفاوة والعناية والتماس الرحمة والمغفرة، والتعبير عن الوفاء والحزن على
الفراق، والمواساة وجبر خواطر أهل وأقرباء المخلوقات التي لازمت حياتنا لعقود طويلة
وتعلقنا بها، وذلك في جِنَازات مهيبة، تحظى في (الإسلام) بآداب خاصة وأحكام وفيرة،
تقام في وقت وجيز لا يتعدى ثلاثة أيام ، يستسلم المرء خلالها للبكاء بالدموع المنهمرة،
كعاطفة إنسانية فطرية تميز البشر عن سائر المخلوقات، وتساعدهم على التنفيس عن النفس
وإراحتها، والتقليل من توتراتها العصبية والعاطفية والانفعالية التي تعتريها، بسبب
مصاب الموت الذي سرعان ما يزحف عليه النسيان الذي يسلي الأفئدة المكلومة بآلام الفقد
وحزن الفراق، ويشغلها عن مصابها، بما هيأ الله سبحانه من أمور الدنيا الفانية ولذاتها،
مهما كانت الرزية عظيمة، حبيبا عزيزا، أو نعمة أو أمنية مأمولة،
كما قال أبوا العتاهية:
لم يشغل الموت عنا مذ أعد لنا .. وكلنا
عنه باللذات مشغول