بقلم الأستاذ حميد طولست
تتمة لموضوع نفلونزا الكراسي"1"
الذي تحدثت فيه عن معضلة التعلق بالكرسي ، ذلك الاختراع العظيم - الذي لا يُعرف بالضبط
تاريخ اختراعه ، ولا من هو صانعه – والذي سرعان
ما تحول من كومة خشب أو خردة حديد ، إلى حلم يداعب خيال الطامحين الطامعين في جاهه
، وأعني هنا بالضرورة كرسي السلطة ، الذي تطير الرؤس فى سبيله ، أياً كان شكله أو اسمه
، لا يهم اللقب الذي يُضفى عليه وعلى الجالس عليها ، وزيرا كان، أو مديرا ، أو رئيسا أو برلمانيا ،
فكلهم في حبه قيس وهو ليلاهم .. كما أنه الشيء الوحيد الذي إستطاع توحيد العرب ، الذين
آلوا مند وجدوا ، على ألا يتفقوا، فجمعتهم شبقية الهيام به ، والتفاني في الحافظ عليه،
والحرص على توريثه للأولاد كأقصى غاية، ولو كان على حساب مصلحة الوطن والمواطنين ،
إلا من رحم ربي ووقاه من اغراءات الكرسي ، ونجاه من جنونه الذي يرفع الأوغاد ، ويعملق
الأقزام ، ويدفع السفلة وأهل الحطة والخسة إلى التفاخر والاستعلاء على العباد ، كلما احتلوا واحدا منها في غفلة أو تغافل من الناس،
أو بتواطؤ من أصحاب الحال.
فقلهٌ هم أولئك الذين نعموا بالسعادة بعد
ترجلهم عن كراسي السلطة ، مقارنة بغيرنا من الأمم ، حيث أضحى من غير المألوف في تجاربنا
السياسية العربية والمغربية، أن يغادر المسؤول كرسيه طواعية ، في تداول سلمي للسلطة،
وغدا من يُقدم على ذالك، شاذا ، وتثير أقصى حدود الدهشة والاستغراب. مع بعض الاستثناءات
في تجارب بعض المناضلين الوطنيين كتنازل الأستاذ محمد بوستة عن كرسي حزب الاستقلال،
وتنازل والأستاذ بن سعيد آيت إيدير عن رئاسة المنظمة، وغيرها من الشواهد والأمثلة القليلة
جدا في تاريخنا المغربي الحديث ، والتي لا تشكل حوافز إيجابية تغري على ترسيخها كنهج
ومثال يحتدى، لأننا لم نمنح التجربتين "البوستوية و "الإيديرية" ما
تستحق من تقدير وتثمين وتعظيم، كما لم نحفظ للرجلين في أدبياتنا السياسية قدر شجاعتهما
التاريخية ، لاعتقاد عالمنا المريض بأنفلونزا الكراسي، بأن ابتعاد الشخص عن موقع الأضواء
وشاشات التلفزات هو ابتعاد عن القلوب والذاكرة والإنصاف ، مع أن الاثنين في منظور العقلاء قد انتقلا بقدر
كبير من الشموخ من كراسي الحكم إلى كراسي الحكمة ، ويحضيان عند النبهاء بنفس التقدير
والاحترام الذي يحضى به أمثالهم من العظماء بلاد الله المتقدمة التي تحترم مبدأ تناوب
السلطة، وطبقت تتداولها السلمي ، والتي عرفت على مدى تاريخها الممتد، العديد من تنازلات
حكامها عن كراسي الحكم وتخليهم عنها لمن يستحقها في هدوء مع الاعتراف للسلف الصالح
بالتقدير والامتنان ، كما فعل "تشرشل" الذي خرج من الحكم ولم يخرج من وجدان
الإنجليز، وكما فعل "ديغول" حين رحل من القصر الجمهوري الفرنسي دون أن يرحل
عن ذاكرة الفرنسيين.. وقبلهما عرفت فرنسا وانكلترا تنحي (نابليون الأول) في الرابع
من حزيران (يونيو) من عام 1814م بعد هزيمته في معركة ووترلو الشهيرة، وتنازل (شارل
العاشر) عن العرش الفرنسي بعدما ثار الشعب الفرنسي ضده عام 1830م واستولي الغاضبون
على (دي تيل) ـ مبنى البلدية ـ ليتولى (لافاييت) رئاسة الحكومة المؤقتة، ثم ليعود لويس
فيليب (دوق أورليان) لإعتلاء العرش الفرنسي،
ولن تكون انكلترا أقل من مثيلتها الأوروبية
فرنسا في هذا الجانب فقد شهدت أشهر هي أيضا تنازل ملكي في التاريخ حين قرر (ادوارد
الثامن) ملك انكلترا التنازل عن عرشه عام 1936م لشقيقه الملك جورج والد الملكة (اليزابيت
الثانية) بعد أن دام حكمه (11 شهرا فقط)، وبعد أن خيرته الكنيسة الانكليزية والحكومة
بين الإحتفاظ بالعرش أو استمرار علاقته بعشيقته الأمريكية المطلقة (الليدي واليس سامبسون)
التي أحبها، فاختار (قلبه وما يحب) وترك العرش وبلاده إلي الأبد عام 1936م وأصبح اسمه
(دوق وندسور) حتى وفاته عام 1972م.
وفي إسبانيا تنازل (شارل الخامس) – المعروف
بتحريم التكلم باللغة العريبة في اسبانيا- عن العرش الإسباني عام 1555م، وفي في أمريكا
الجنوبية تنازل (سيمون بوليفار) قائد الإستقلال عن كرسي الحكم بعد مطالبته بتوحيد أمريكا
اللاتينية، فيما تنازل (قسطنطين) ملك اليونان وهرب مع عائلته إلي روما ثم إلي لندن
عام 1967م اثر الإنقلاب العسكري الذي أطاح به. وكذلك تنازل (لويس فيليب) ملك فرنسا
عام 1868م، و(غليوم الأول) ملك هولندا عام 1840، و(شارل ألبرت) ملك سردينيا عام
1849م، و(إيزابيلا) ملكة اسبانيا عام 1830م، و(غليوم الثاني) امبراطور ألمانيا عام
1918م بعد خسارته الحرب العالمية الأولي، و(فرديناند) ملك بلغاريا عام 1918، و(قسطنطين)
ملك اليونان عام 1922، و(فكتور عمانؤيل الثالث) ملك إيطاليا عام 1946م بعد خسارته الحرب
العالمية الثانية، و(ميشيل) ملك رومانيا عام 1948م.
و قبل هؤلاء جميعهم ، فعلها امبراطور روما
(ديوقليانوس) عام 305م ، وها هو ديفيد كامرون
رئيس الوزراء البريطاني يفعلها بعدهم جميعهم ، ويقدم استقالته ، وما أظن أن القضية
ستتوقف هنا ، بل ستستمر مع استتمار يقظة ظمائر هاؤلاء وإيمانهم بالتناوب السلمي والديمقراطي
للسلطة ، وخير مثال على ذلك هو خطاب امبراطور اليابان الذي عبر فيه عن رغبته الواضحة
في التنازل عن العرش – رغم القيود التي يفرضها عليه منصبه - وإعرابه عن القلق إزاء
قدرته على أداء مهامه بشكل كامل ، حيث قال في خطابه :"عندما أنظر إلى عمري الذي
تجاوز الثمانين وللتدهور التدريجي في صحتي البدنية رغم تمتعي لحسن الحظ بالصحة في الوقت
الراهن، يساورني القلق بشأن الوفاء بواجباتي بصفتي رمزا (للبلاد) وبقصارى الجهد كما
ظللت أفعل حتى الآن".
فأين نحن الذين نتناحر على الكراسي والمناصب
ونلوي أعناق القوانين والدساتير لنبقى فوقها مدى الحياة ، بل وحتى بعد الموت لو أمكن
لأحدنا أن يبقى على الكرسي بعد الوفاة ، لما رفض ذلك ، ولحكم من قبره . فلاشك أن مثل
هذه العقليات المتخلفة هي التي تفرز المستبدين والديكتاتورين في البلاد العربية والإسلامية.