بقلم الأستاذ حميد طولست
الكتابة إنتاج الذات انطلاقا من الذات،
والكلام المطلق المرسل من القريحة بلا كلفة ولا تصنع ، مهمتها السامية ، التعبير عن
الخواطر والمحسوسات ، و التأريخ للحياة اليومية للذات والناس، وتنويرها بكل شفافية
ومصداقية وبصيرة، فإذا كانت كذلك وصلت قيمتها إلى عنان السماء، أما إذا لم تتجاوز مزج
الحقيقة بالخيال فأهميتها آنذاك لن تفوق خيال شاعر يخلط الحق بالباطل. وهي ليست شيئا
مُودَعًا فينا، لكنها لا تكتسب من فراغ، بل نتيجة لتراكمات فكرية وتجربة حياتية تقارع بعضها في محاولة الترقي إلى أعلى درجات الفن
والإندماج مع التعبيرات الفنية الأخرى، الرسم، الموسيقى، المسرح، الصورة، والصوت.
موجب هذا الكلام عن الكتابة ، هو أنه بعد
إحالتي على التقاعد تشكلت عندي رغبة عارمة في الكتابة، وراودتني فكرة خوض غمارها بإلحاحية
مرضية، فكنت كلما جلست إلى نفسي، أو اختليت بأوراقي وذكرياتي إلا وانتابني شعور عميق
وأحسست برغبة دفينة في تناول القلم ، تنهش أعماقي وذواخلي .. تحكمت بي شهوة تجميع شتات
أفكاري ورؤاي وتسليمها لبطون الأوراق وصفحات "النت" أمانة اتقاء التلف والاندثار،
وعندما نضج اقتناعي بعمق فكرة، ضرورة تخليد عناصر الحياة وتفاعلات المواقف، واجتراح
الإجابات الرافضة لهامش الحريات وفتاتها، قررت تجريب الكتابة التي ملأت علي مسار أفعالي
وملكت حركاتي وأحاسيسي.
قلت تجريب الكتابة بجميع تمظهراتها ولم
أقل التأليف، لأن التأليف صناعة وموهبة من أنبل الصنايع ، ورغم مشقة الكتابة، وما يصاحبها
من كبد وإنهاك شديد ترتعد له الفرائص، ومعاناة كبيرة يتعرق منها الجبين، فقد بدأت التجربة
في تنمية الحد أدنى من القدرات الكتابية الحرفية التي لم تعنيني في يوم من الأيام السوالف
كهدف بالدرجة الأولى. فما راودني لا يعدو تجميع لما انهمر من الذاكرة وجادت به القريحة
وتفضل به الواقع، من ركام الأحداث ووقائع الروايات والقراءات، وملخص الأفكار والتخيلات
والتجارب التي لا تجيب في حد ذاتها عن الأسئلة الحياتية بقدر ما يزيدها تعقيدا وتجعل
الإجابات عنها مستحيلة ، وتضيع بين التنافي
الطبيعي للحزن والفرح، للحب والكراهية، للمعاناة والألم، وتساهم في تشكيل خريطة ذلك
الضياع ، العواطف المفعمة بالمشاعر والأحلام، المشبعة بالآلام والجروح، الأفراح والملذات. فكنت أجلس بين فترة وأخرى، في أي مكان ، وأشرع في
الكتابة بكل بساطة ودون تعقيد، وأزيد فترات ولحظات الكتابة كل مرة، إلى أن أنطلق عنان
قريحتي محلقا في أجواء الكلمة الساحرة، وعوالمها المزهرة. أعبر عن أفكاري وآرائي ومواقفي،
أشارك الآخرين أحاسيسي ومشاعري وتجاربي.. كنت أكتب كلما أحسست بالضيق، ومتى شعرت بالغبطة
والفرح، وحين أتعرض لأي موقف صادم، كنت أتيه في البحث عن حقيقتي ، وحقيقة العالم من
حولي. أكتب حينما لا أجد من يشاطرني أفكاري وآهاتي، وحتى لا تبقى تلك الأفكار والآهات
قابعة بين الرفوف والحزم وفي أعماق الذات أيضا. أكتب لكي تخرج تلك الأحاسيس وتشكل لنفسها
مسارات ملائمة، أو غير ملائمة، المهم أني أكتب كلما شعرت بامتلائي بما أرغب في البوح
به، أو كما قال الشاعر محمود درويش :
"اكتب.. ربما لأنه لم تعد لي هوية أخرى.. لم تعد لي محبة أخرى وحرية أخرى ولا
وطن آخر".
أكتب في كل وقت، لكن دون تجنيس للكتابة
أو تصنيفها بحسب ما يشترطه الأكاديميون الإنضباطيون لقواعد من صنعهم، ودون الإعتماد
في لحظاتها على تسلسل معين في الإستذكار، ولا على تقسيم محدد أو تبويب معلوم ، كنت فقط ، أساير أحداث الزمن ، اشتبك مع الكتابة، التي
كانت تكتبني وأكتبها .
ومع كل ذلك ، فقد التزمت في كتاباتي على
الأساليب الناسفة لكل الحدود الاصطناعية، والتعابير المتجاوزة كل الخطوط الحمراء المفروضة
اعتباطا ، لكن دون الابتعاد عن اللباقة المشذبة، في كل ما أكتب فيه وعنه، يقودني إحساسي
بالرسالة والمسؤولية وتأدية واجبي نحو الله والحقيقية والناس، وضرورة الانفتاح والتواصل
وأهمية الاعتراف بعقول الآخرين، مؤمنا بأن الحق له زوايا مختلفة، كما قال الإمام الشافعي
في مقولته المشهورة (قولي حق يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب) أو كما يقول
جان جاك روسو"إنني أخالفك الرأي لكني أبذل كل ما في وسعي كي تقول رأيك بحرية.
فلا أكتب بشكل انفعالي أو تحت أي تأثير، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".
حاولت دائما ألا تكون كتاباتي سردا لحكاياتي
ورواياتي، وألا تتحول لسيرة ذاتية تمس ذات كاتبها وحسب، أو كتابة فوق الذاكرة لا عنها
ولا فيها. لأني أردت لمكتوباتي أن تكون وقفة مع الذات، وانتباها من خلالها لاشتغالات
النفس بهموم غيرها من الذوات، وقبضاً على لحظات المعانات وتعليقا عليها، أكثر منها
تراخياً وتلذذا بنشوة الكتابة و استدعاء لصورها، أردتها تعبيرا صريحا عن جروح الأزمنة
المتراكمة، ومخاطبة للأرواح الباحثة في كل مكان عن زخم الأمنيات، وحثا النفوس المكلومة
، على هدم جدران الخوف، وكسر كؤوس البؤس والقهر والفقر، والسير نحو حلم التحرر والإنعثلاق
، أردتها مشعل نور يضئ عقل الإنسان ويثبت أحقية إنسانيته.
كم تمنيت مخلصا أن أصنف ضمن الكتّاب المسالمين،
أي من الذين يسيرون (حداء الحيط) ويستظلون بظله، بلا تشدد أو تطرف ، وقد كيّفت نفسي
على ذلك، أتحرى الحياد والدقة والصدق، دون إسفاف أو انبطاح أو تسطيح حتى لا ينزلق مكتوبي
إلى ما لا يفهم ، والذي لا يستوعب، و حتى لا يوافق العقول الصدئة المصابة بعفونة التفكير
،وحتى لا يقال عني:
وما كل من هز الحسام بضارب* *ولا كل من أجرى اليراع بكاتب...
إلا أن التجربة الميدانية، أثبتت لي أن
أمنيتي تلك ما هي إلا ضرب من الخيال، فأغلب ما يجري حولي من مظاهر القبح والرداءة التي
لا تتوقف عن الزحف إلى كل قلم نزيه ، يدفع إلى الكتابة المسكونة بالدهشة و السؤال،
التي ولا تنتظر مباركة من أحد، ولا تطيق الحصوة تحت لسانها ، ولا تخفي رأيها ، وتشهر
اختلافها وتمرّدها وتخرج على النمذجة و التصنيف... دون إدعاء مني بتغيير الواقع، لكني
أساهم فيه قدر المستطاع بفضل المفعول السحري للكتابة الذي حررني من اغترابي الداخلي
، وأطلق العنان لمكبوتاتي بكل أشكالها النفسية والسياسية والاجتماعية.