بقلم الأستاذ حميد طولست
رغم مرور أزيد من أسبعين على مناسبة اليوم
العالمي للصحافة ، لا يزال قلمي يحرجني بأسئلته/اللغز، التي طالما حيرت نظّار المعرفة
، وأرقت أصحاب الفهم والنباهة، والتي اعتاد أن يبدأها بزفرات حزن وألم ويقول :
"لماذا تكتب وغيرك من الكتبة والصحفيين ؟ وأنتم تعلمون مسبقاً أن القراءة أمة
إقرأ لا تقرأ، وأن لا أحد منها يهتم بما تكتبون ، إلا القلة القليلة من النخبة المحدودة
جداً من العاملين في ميدان الإعلام، وبعض المهتمين بشؤون الفكر والثقافة والرقباء وأصحاب
الحال طبعا*" وغالبا ما كنت أتحير في الرد على تساؤلاته الملغومة ، التي ليس لا
أجد لها إجابة دقيقة ، أو رد قاطع ومحدد ،
وخاصة فيما يتعلق بالرغبة الجامحة في الكتابة والدوافع المحفزة لفعلها ، التي لا يحسها
إلا من يرتكبها كمغامرة غير محسوبة العواقب،
وفعل مجرّم رغم مشروعيته وقانونيته، يقود في الغالب للنقد واللوم ، و أحيانا كثيرة
للسجن، وربما للمشنقة ، ويؤكد على حمق المسكونين بها ، وجنون المدمنين عليها ، ورغبتهم
في تجاوز المبتذل، ونبش كل ما عملت الأيام على ردمه وإخفائه ، وكشف جوانبه الأكثر ظلمة
وعتمة، وتعرية المناطق المظلمة في ثقافتنا وفي واقع الكثير من نخبنا، مثقفين وساسة،
الذين يكرهون الكتابة والكتبة ، وتؤرقهم الحقيقةَ، وتمنعُ عن أعينهم النومَ، ويُحفِّزون
خلاياهم العقليةَ في البحث عن تعلاّتٍ، مهما كانت حمقاء، لإبعادهم عن عوالمهم ، ويصويبَون
إمكانات مدافعهم نحو نْحُرِوهم العاريةِ، وخاصة منهم أولئك الذين يؤمنون بثقل الأمانة
، وفريضة النصح، وواجب شهادة الحق، الذين يؤمنون إيمانا قاطعا بأن من يكتم الحقيقة
هو شيطان آثم قلبه، أولئك الذين أسهب تولستوي في وصفهم بقوله: "(إنّ الكتّاب الخالدين
الذين يهزّون نفوسنا لديهم هدف مباشر من الكتابة كالحرية والجمال، وآخرون لديهم أهداف
أبعد كالتعريف بالله، وفلسفة الحياة والموت، وسعادة البشرية.. وأفضلهم أولئك الذين
يصوّرون الحياة لا كما هي فحسب، بل كما ينبغي أن تكون)".
يقول قلمي ألا ترى مما سبق أن كل مَنْ يمتهن
الكتابة في هذا العصر ، متَّهم حتى تثبُتَ براءتُه"، وأن من يكتبَ حرفا واحدا،
كمن يحشو قلمِه رصاصا، ومن يكتبَ لفظةً أو جملةً تامّة المعنى ، كالذي يشرع في القتلِ،
أما الذي يكتب مقالة في الأخلاق أو السياسة ويصوّر الحياة كما ينبغي أن تكون لا كما
هي في الواقع ، فهو المجرم المصمم على ارتكاب أخطر الجرائم ، عمدا وبسبق اصرار وترصد
،الظرفان المشددان للجريمة ، كما يقول أساتذة القانون والجريمة.
ومهما حكيت لقلمي عن مزايا الكتابة ودورها
وقيمها ، وأنها تبقى أقدس فعل قام ويقوم به الإنسان، وأنبل وظيفة إمتهنها بني البشر،
وأنها تعتبر رسالة نبوية ، يكون الكاتب خلالها كالقائد في عشيرته ومحيطه، كما في قول
الفيلسوف بومجارتن: "(لا توجد وظيفة أكثر نبلاً من وظيفة الكاتب.. إنه الكائن
الذي يقود.)" فإن الأسئلة التي يطرحها كلما استكتبته ، عن فحوى ومعنى ما نكتب
وعن القيمة المعرفية والنظرية فيما نكتب، وعن الضرورة العملية للاستثمار في فعل الكتابة
، تبقى محيرة ومؤرقةً
وفي خضم اسئلة قلمي المتنوعة والمتلاطمة
حول جدوى الكتابة ومآلاتها التي تدفع بالكتاب والصحفيين والمفكرين والأكاديميين والروائيين
إلى إنتاج هذا الزخم من المقالات المتعددة والتحقيقيات المختلفة والكتابات المتنوعة
السياسية منها أو الأدبية أو العلمية والتي تكبدهم كل أنواع هذه الخسارات ، وتجرعهم
مختلف تلك الرزايا في عالم لا يعير أدنى اهتمام لإبداع المبذعين ، تبقى أشد مفارقة
في المشهد الإبداعي، هي أنه لا يكاد أغلب الكتاب والروائيين والصحفيين الخروج من رزية
إصدار، أو النجاة من تبعات ترقب مراقبين ، حتى تراهم يعاودون الكرة من جديد، وتجد الواحد
منهم، يتحدث في زهو عن عمله الجديد بشغف الطفل وحب وحنان الأم، وسعادة العاشق..