بقلم الأستاذ حميد طولست
لقد إحتد الإختلاف بين جلسائي في المقاهي
أثناء مناقشة قضية ما أقدمت عليه "مي فتيحة" التي أحرقت نفسها قبل أيام دفاعا
عن كرامتها، وتحول إلى موضوع يناقش إقدام الإنسان السوي على الارتماء في أحضان الموت،
وخطورة ما يلاقيه المرء من آلام مع ذاك المجهول الذي يفر منه الجميع ، وتطور الحديث
حول الأسباب والدوافع العميقة التي تجبر المرء على التخلي عن الحياة حين تضن عليه بأبسط
الحقوق الحياتية ، من كرامة ، وحرية ، ولقمة خبز.
لأحيانا كثيرة تكون مناقشة بعض الحقائق
والوقائع السائد لدي قطاع لا بأس به من المجتمع ، صعبة وقاسية للغاية، وخاصة في مجتمع
يكتفي الكثير منه ، باختزال الإنتحار بكل أشكاله في أنه فعل اللأخلاقي واللديني ، وتصهف
من يقدم عليه ، في فئة جاهلة الخارجة عن الدين ، وتحملها مسئولية فعلها الذي لا جزاء
له -حسب نظرتها السطحية -غير جهنم خالدين فيها، ولا تشفع لها عندها ، احتجاجيته الفردية
وتضحيته بإحراق جسده ،التي اطاحت بالكثير من قلاع الفساد والمفسدين، كما حدث في تونس
مع الرئيس زين العابدبن بن علي، الذي لم يجرؤ أحد قط على زعزعته من على الكرسي الذي
تربع فوقه ثلاثة وعشرين عاما، كلها ظلم وقهر وحرمان ، فزلزلته النار التي احرقت جسد
الـ "بوعويوي".
كما اعتبر بعض المشاركين في النقاش ، بأن
الإنتحار ما هو إلا موقف تدميري إرهابي إفنائي، نابع من لحظة عدمية متعالية لظاهرة
نفسية نفسانية مرضية، و أنه تأثير فيزيولوجي لعوامل جوية مناخية مرّ بها ومعها كل الذين
أحرقوا أنفسهم ،وهم في حالة من الاضطراب العقلي أو الضيق النفسي اضطرهم إلى فعل ذلك الفعل الشنيع .
واعتبره فريق ثالث من جلسائي ، أنه موقف
إبداعي تغيري يستحق التقدير والاحترام، وأن المنتحر يستحقون منا الشفقة والتعاطف بل
والإحساس بالذنب نحو ما أجبروا عليه من أفعال لا مسئولية لهم فيها.
ورغم يقيني بأن القيام بحرق النفس هو عمل
ينطوي على كثير من المخالفات الشرعية والوطنية والإنسانية، وأنه فعل مرفوض شرعا وعقلا
وأخلاقا، ويقع في حكم الجرائم المنهي عنها شرعا والتي لا يجوز ارتكابها تحت أي دافع
ولأي سبب كان، لأنه طريقة موت فظيعة ومؤلمة جدا، لا يتمناها الإنسان السويّ حتى لألد
أعدائه، ولأن الجسد أمانة ووديعة بين يدي الإنسان، وهو مسؤول على الحفاظ عليها ولا
يحق له الإساءة له لأي سبب كان". لقوله سبحانه وتعالى: "وَلاَ تَقْتُلُواْ
أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً "النساء29
..
فإنه من التجني، أن نلوم العاطلين والفقراء
المسحوقين على يفضلون الموت طوعا - رغم فظاعة الموت حراقا أو غرقا- على وطأة القهر
والتعدي على الكرامة ، وخاصة بين من تعوزهم قدرة وقوة الوقوف في وجه ذلك الظلم والقهر
والإهانة الناتجين عن الحرمان من الحق، والذين أحسوا به، كما أنه من العار اعتبار ما
قدموه من تضحية بالنفس ليحي غيرهم حرا أبيا، أفعال عدمية لا تعكس شجاعة، وليس إلا دليل
جبن وفشل وانعدام رغبة الشباب في الاستمرار في الحياة ، حتى قط ما كيهرب من دار العرس.
وكان الأجدر بالمنتقدين، قبل أن يلوموا
من يموت تشوقا لاحتضان الحرية والكرامة والحياة ، الرغبة الإنسانية المشروعة، أن يفهموا
بأن عمق الألم وحجم المعاناة وكمّ القهر والإهانة وضياع الحقوق، والتقلب بين أحضان
الفقر والظلم ، هو أكبر وأفظع من الموت حرقا أو غرقا ، وهو أخطر الجرائم التي ندد بها
القرآن الكريم وجميع الكتب السماوية، ونهى عنها لأنها السبب الرئيسي في نشر كل الأوضاع
السيئة السوداء ، وظروف القهر والفقر التي تصيب اللبيب بالحنون ، كما يقول الشافعي
رحمه الله: "لا تستشر من ليس في بيته دقيق لأنه مدلّه العقل"، أي ذاهب العقل
.
وعليهم لوم من يتحمل مسؤولية ما وقع ويقع
في عالمنا المتخلف في كل شيء، الذين يسيرون شؤون الناس حسب أهوائهم وإجراءاتهم المضحكة
الاستغفالية –كتصريح السيدة الوزيرة الحقاوي التي نفت وجود الفقر في المغرب ،خلال كلمة لها في البرلمان -التي لا تحل مشاكل ولا تخفف
من أزمات، بقدر ما تزيد من ثقل أعباء وهموم المواطن اليومية.