بقلم
الأستاذ حميد طولست
انسجاما
مع ما مس البنى الاجتماعية
والثقافية والفكرية والاقتصادية والإنمائية بالمغرب
في السنين الأخيرة من تحولات عامة وسريعة ، عرف ميدان
السياسة العمومية هو الآخر ، تطورا مهما في شكله ومفاهيمها ، وخاصة في خطابه وقواميس لغته التي مس
تحول مضطرد أقرب إلى الطلاسم منها
إلى المفاهيم السياسية ، التي تتصدر
جل أحاديث وحوارات القادة والسياسيين ، وتحاليل الباحثين والمحللين ، وتؤثث أدبيات
برامج رجال ونساء الدولة والحكومة ، وتعضد مواقف واحتجاجات المعارضين ، دون أن
تفهم غالبيتهم العظمى معانيها المطلسمة ، التي تشنف بها أسماعنا ، أو تفقه
دلالاتها ودوافعها المتشابكة ، التي يدعي الجميع فهمها ، ويتظاهر الكل باستيعابها
، ويطالب الجميع بتطبيقها ، خوفا من أن يتهم بالجهل ، أو ظنا منهم بأن الحديث لا
يستقيم بدونها ، أو اعتقادا أن خلفها سحرا خاصا أو أسرارا خطيرة ..
مصطلحات
رنانة من قبيل الحداثة والرجعية والراديكالية والشوفينية والشفافية والتنافسية
والرأسمالية والبراجماتية والميكافيلية والدغماتية والبورجوازية والبرلطارية
واليوتوبيا والديمقراطية والتيوقراطية والبيروقراطية والأوتوقراطية والأيديولوجية
والديماغوجية والتخليق والمقاربة التشاركية وغيرها كثير جدا جدا لا تسعه مقالة
واحدة ..
والمستغرب في أمر هذه المصطلحات هو أنه رغم ما يلف
مفاهيم الكثير منها من غموض والتباس ، سواء من حيث المنشأ أو الهوية أو الأبعاد ،
الظاهرة والخفية ، أو من حيث المعايير والمقومات ، وما تتطلبه من دراسات ونقاشات
وحوارات وندوات وموائد مستديرة ، وأموال عامة وأوقات ثمينة تهدر من أجل
فهمها قبل تطبيقها ، فإن تدفقها ما يزال مستمرا بغزارة إلى
اليوم بين مثقيفنا وسياسينا الذي تطلعون علينا كل هنيهة بمصطلح حداثي جديد ، يتغنون بمفعوله السحري في تحقيق كل
إقلاع تنموي، وتغيير واقع التدبير اليومي لمرفقنا العمومي المتأزم ، ولعل آخر
مخترع تغزل السياسيونا وكافة المسؤولين، -الذين ليس في جعبتهم من السياسة إلا
القشور ، ولا يركزون إلا على كل ما هو مظهر خارجي مخادع - من مصطلحات رنانة
مستوردة من الضفة الأخرى مصطلح "الحكامة" بكل أنواعها وتفرعاتها ،
الحكامة في المرفق الإداري ، الحكامة في المشهد السياسي ، الحكامة والشفافية ،
الحكامة والتنافسية ، الحكامة والديمقراطية ، وباقي الحكامات الأخرى التي لا
تعد ولا تحصى ، والتي أعلنت الحكومة الحالية ، غير ما مرة ، نيتها الأكيدة على
الالتزام بمبادئها في التدبير ، وتبعتها في ذلك الجمعيات المدنية والصحافة الوطنية
في تضخيم واجترار المصطلح كالببغاوات ، ليصبح بنفس الأهمية ، أو أكبر من كل المضامين والغايات التي جاء من أجلها ، وهي علاج الكثير من
الأزمات والإختلالات الخطيرة التي تنخر المجتمع ، كالجهل ، والفقر ، والمرض
، وسيادة عقلية التفرد ، والإقصاء ، ومَرْكَزَة القرارات ، وغياب قيم الإشراك
والتعاقد والشفافية والمحاسبة ، وطغيان القرارات اللحظية المرتبكة والمربكة
البعيدة عن كل تخطيط استراتيجي مثمر.
أنا لست متشائما - كما يمكن أن يتبادر إلى بعض الدهنيات
المريضة - وليس غايتي نشر التيئيس والعدمية والسوداوية بين المواطنين ، كما يفعل بعض الصحافيين المثبطين
الذين يسهمون بصورة مباشرة أو غير مباشرة فيتهويل الأمور والزيادة
في معدلات الإحباط ، ويقفون في وجه تقدم البلاد بإفشاء الأفكار التشاؤمية. ولكني غير متفائل ولا مطمئن للنتائج المتوخاة من "الحكامة"
بصفة عامة ، و"الحكامة الجيدة" بصفة خاصة ، والتي هي مؤشر حقيقي على دولة الحق والقانون ، وعنوان
للانتقال إلى المواطنة المرتبطة بمشاركة كل المواطنين بدون استثناء في ورش تنظيم
المرفق العمومي المغربي على أساس من المساواة ، والإنصاف ، والاستمرارية في أداء
الخدمات ، والجودة ، والشفافية ، والمحاسبة ، والمسؤولية ، واحترام قيم
الديمقراطية ، التي خصها دستور 2011 بباب مستقل ، هو الباب الثاني عشر الخاص بالحكامة
الجيدة ..
لكن ، وبما أن " البدايات قد تنذر في كثير من الأحيان
بالخواتم والمآلات "، كما يقول المثل ، فإن
السؤال : هل مرافقنا العمومية تنطبق عليها تلك الصفات ؟ يجترح أسئلة كثيرة أخرى ،
أكثر صراحة وإلحاحية من قبيل: كم هي نسبة المغاربة المكلفين بالمرافق العمومية
الذين يمارسون وظائفهم ، في إطار من احترام القانون ، والحيادية ، والشفافية ،
والنزاهة ، وتقديم المصلحة العامة على الشخصنة ، التي هي صلب الحكامة ؟ لاشك أن
الجواب عن السؤالين معا سيأتي بالنفي الصريح ، مع بعض الاستثناءات الضئيلة طبعا ،
وذلك لأن مشكل المغرب هو مشكل تدبير بامتياز ، فتلك الحكامة التي تعتقد الحكومة ،
جازمة ، أنها قادرة على أن تأتي بما لم تأتي به كل السياسات الأخرى ، والتي الخطأ
لا يأتيها لا من خلفها ولا من أمامها ! –مع العلم أن اختبار صدقيتها لا يتأتى في
الوقت الحالي مادام الأمر في بدايته ، وأن الخطأ والصواب عملية جدلية تأتي من
التجربة والممارسة والتعلم ، غير أن هذا وذاك لا يمنع من مواكبة التجربة والتقويم
المستمر لسيرورتها ، والتعامل معها كحقيقة واقعة تحتاج إلى فهم ، وتستلزم
تحقيقها الإرادة والتحفيز والمتابعة وتحديد الأهداف والوسائل . وإلى اللقاء مع
مصطلح طلسم آخر ..