دور المجالس المحلية في نشر الثقافــة ،
نمودجا .
بقلم الأستاذ حميد طولست
كنت قد كتبت في مقالة سابقة عن ظاهرة تدخل
السياسيين في الرياضة واستغلالها لأجل مصالحهم السياسية ، وهنا ، سأكتب بعون الله عن
ظاهرة مشابهة ، وهي "تدخل السياسي في الثقافة "، وخاصة في الجماعات المحلية
، حيث يتسلط الكثير من مستشاريها على الميادين التي لا صلة لهم بها ، كالثقافة ، فيرتدون
جبتها ، ويتقمصون أدوار أهلها ، وينصبون أنفسهم حماة لقلاعها ، يخططون ويهندسون وينظرون لها ، مع أن أكثرهم لم
يُعرف عنه أي اهتمام بها ، أو أن له مستوى دراسي يمكنه من أن يكون من روادها ، ومع
ذلك تراهم يهيمون في بحورها التي لا تصلح لهم ، ولا هم يصلحون لها
.
ليس هذا باب الاحقار أو التقيل من قدرات
المستشارين الجماعيين ، فأغلبهم رجال أفاضل وتربطني بالعديد منهم علاقات طيبة ، لكن
غير المفهوم وغير المنطقي هو تكالب بعضهم على الثقافة ، كما تثبت ذلك معاينة تجارب
الجماعات للشأن الثقافي المحلي ، والتي تكشف أن المنتخبين المكلفين بالشأن المحلي لا
تربطهم بالثقافة إلا "الخير والإحسان" !! وأن أغلبهم لا يعيرونها أي اهتمام،
وأنها لم تكن أبدا في متن أو هامش إستراتيجياتهم، لأن العلاقة بين الثقافة والمجالس
البلدية، لم تكن في يوم من الأيام على ما يرام ، وأنها ظلت كذلط ، غير أصيلة وربما
لقيطة ضمن عمل الجماعات المحلية ، وليس لها حيز في مخططاتها الرسمية ، وتُلحق في الغالب
الأعم بمستشارين ضعاف، تكوينا ودربة ، يكونون آلية من آليات التحكم وبسهولة في ميزانيات الثقافة ، وتحوير مقاصدها،
وحصر مضامينها ومجالاتها في البهرجة الإعلامية و"قص" الأشرطة والوقوف أمام
كاميرات المهرجانات الموسمية، والمناسبات الفلكلورية البعيدة عن الثقافة الحقة كضرورة
إنسانية ومجتمعية تعنى بأمن وأمان، ورفاهية الساكنة بكل مجالاتها ، والتي لم تكن يوما
ما ضمن حسابات رؤساء الجماعات المحلية، ولم يستشعر أكثريهم أهميتها، إلا فيما ندر،
وحتى تلك الندرة عادة ما تكون في سياقات مبهمة، وتحت طائل الأوامر الرسمية، أو تبعاً
للهَبّات المناسبتية ، أو الاهتمام بتسويق بروفايلات الشخصيات النافذة بتلك الجماعات.
وهنا لابد من طرح التساؤلات الملحة التالية : ما مدى حضور الثقافة وفاعليتها في واقعنا
ومحيطنا المحلي بكل مستوياته ؟ وهل استطاعت الجماعات المحلية أن تنشط المشهد الثقافة
العام لمجالها الترابي؟.
ولكي نجيب عن هذه التساؤلات ينبغي ألا نغفل
أو نتغافل علاقة "السياسي" بـ( الثقافي) في جدليتها الخاصة، في ظل هيمنة
السياسي على الثقافي واستمراره الذي طال أكثر من اللزوم على حساب الثقافي ومحاولة تكريسه
واقعاً سوسيوثقافيا يذوب فيه المنتَج الثقافة في السياسي.. ومن هنا جاء سؤال عن إمكانية
وقدرة الجماعات المحليةعلى تنشيط الذاكرة الثقافية
للمجتمع، في مشهد انغمس في السياسة والتسييس وخطف الكثير من المثقفين من ميدان الثقافة
إلى ملعب السياسة الأكثر بريق وضجيجاً وربما الأكثر كسبا.
إن أكبر النكبات التي مني به مجال الثقافة
في الجماعات المحلية المغربية، هو تسلط منتخبين متكئين على شرعيات سياسية هشة خولت
لهم التحكم في الشأن المحلي وتأميم ميزانياته لفائدتهم وعشائرهم والأقربين، وهدرها
هدرا شاملا على ترميمات مشوّهة في شكل أنشطة رديئة لا تأتي بفائدة ، وتجارب مستنسخة
لا تخلف إلا أعمال ثقافية مصابة بكثير من الأوبئة، التي تشل الحركة الثقافية وتميتها،
وتدني الإنتاجية وتحد من قدرة المبدعين الحقيقيين وتنفرهم من السير نحو الإبداع لإخراج
عربة الثقافة المحلية من مستنقع التسطيح والابتذال.
لست هنا بصدد تقزيم عمل من أنتج وأبدع إبداعا
حقيقيا من مستشاري البلديات في غمرة الظروف الصعبة التي تمر بها جل الجماعات المغربية،
حيث يشذ البعض عن الصورة المتقاعسة عن الإبداع الثقافي، ويتفتق وعي بعض المستشارين
مبكراً، فينقل العمل الثقافي من دائرة الكفاف وذر الرماد ، إلى مساحات أرحب من الرزانة
والفنية التي تخرج قاطرة الثقافة المحلية من وحل الرتابة التي تسبح فيها، وكمثال مثالي
على ذلك ما حصل في جماعة المشور فاس الجديد حيث
تنبهت فعالياته قبل سنوات بتنسيق مع السلطات الرسمية بها إلى المعاني السامية
لعمل الثقافة التي حولت الحي النائم المهمل إلى مدينة ثقافية مبدعة تشد إليها الرحال.
ومن هنا يظهر جليا أن معظم مشاكل الثقافة
الرخوة والمكتظة بالهشاشة ونكران الصلة بالواقع المحلي والوطني، هي مشاكل مفتعلة ،
مقدور على حلها، لو حضرت الإرادة الصادقة، وتوفرت الرغبة الجادة في معالجة القائم والمتأزم
منها ، فما حصل في جماع المشور فاس على سبيل المثال لا الحصر، لاشك أنه نابع من خبرة
وإرادة أناس يستحقون المواقع التي يتبوؤونها ، لأن ذاك النوع من العمل الفني الثقافي
الذي رام تنمية الإنسان الفاس الجديدي ، وتوعيته وتربية وصقل السلوكه وفكر وفعله، كما
وكيفا، بناء وتكوينا ، حتى يتشبع بالإبداع الجمعي التطوعي.
ورغم ما شهدته الجماعات المحلية خلال الأعوام الأخيرة
من تحول مهم في المجال الثقافي، إلا أنه لا تزال هناك الكثير من المستشيرين ينظرون
إليها على أنها مجرد نشاط لا فائدة منه غير تبدير الأموال واغتناء بعض النافدين منه
، ما يعيق تطوير الفعل الثقافي بالجماعات المحلية ويحد من إثرائه وتنمية وبناء إنسان مجتمعي متكامل فكريا وتربويا
وسلوكيا باعتباره رباط عضوي بين الإنسان والإطار الذي يحـويه