بقلم : خالد مشبال
أنا بطبعي سريع الاستجابة للحزن، يستفزني الشعور بآلام الناس، فلا أستطيع أن أغمض عيني أبدا على يد مبسوطة تطلب الرحمة ولا تجدها. وليس هذا مظهر ضعف أو تشاؤم كما يظن بعض الناس، فإن التشاؤم ليس شعورا بالحزن أو المشاركة في آلام الآخرين، ولكن التشاؤم، شعور النفس التي لا ترضى أبدا، والإغراق في إغفاءة مسلوبة الإرادة دائما، لا تتوقع إلا شرا، ولا تظن بالناس إلا شرا. أما الاستجابة للحزن والألم فهي دليل على فرط الشعور بالإنسانية، ومظهر من مظاهر القوة في وعي الإنسان بإنسانيته.
الإنسان يعيش من عواطفه ومشاعره في هذه الحياة، بين قوتين متعادلتين حتى يحفظ توازنه، قوة السرور وما تقتضيه من فرح ومرح وضحك، وهي قوة غامرة تنسينا أنفسنا، وتصرفنا عن واقعنا، وقوة الحزن وما تستوجبه من الأسى والبكاء والألم، وهي قوة تذكرنا بأنفسنا، وتزيدنا معرفة بحقيقتنا وحياتنا وواقعنا في هذه الحياة.
فلا شيء كالحزن يصل الإنسان بالحقيقة، ولا شيء كالحزن يطهر الروح، ويرهف الطبع ويخفض من ضراوة الغريزة، ويسترسل بتفكير الإنسان في معنى الوجود، وما استعصى من تصاريف الزمن على الإفهام.
لقد حاول المجنون «نيتشه» أن يحطم كل المعاني والقيم الإنسانية التي نادى بها الأنبياء، وعاش عليها الإنسان مع أخيه الإنسان عبر التاريخ، ووصف الرحمة والتراحم والألفة والمودة والتآخي والألم بأنها أخلاق العبيد، وعنوان الانحطاط والضعف، فكانت هذه الدعوة المجنونة وبالا على العالم، وزاد في هذا الوبال، أولئك الفلاسفة الذين جاءوا من بعد «نيتشه»، فأخذوا يشرعون للإنسانية حياة قوامها المنفعة والمصلحة والثمن والربح، ويصورون حياة الإنسان مع الإنسان على أنها صراع، وأن الغلبة في هذا الصراع تتحقق بأي أسلوب يملكه الإنسان، حتى بالقتل والغدر والخداع والتزوير وإراقة الدماء، وكان من أثر هذه الفلسفة المجنونة أن أصبح الإنسان يعيش منفصلا عن مجتمعه، وأن أصبح المجتمع الإنساني أشبه بغابة، يعيش على شريعة الإفتراس.
في عمارة سكنية واحدة، نجد أسرة يعتصرها الأسى والألم حزنا على فقيد عزيز، وفي مسكن مقابل، نجد أسرة أخرى تعربد وتهرج على نغمات موسيقى حادة تشق الجدران، وهكذا بدأ الإنسان يفقد كل معاني الرحمة والتراحم والألم والتآسي، والشعور الكريم النبيل الذي يربط الإنسان بالإنسان.
الحزن باب الرحمة، والتألم دليل الإنسانية وطريقها، مرحبا بالحزن يملأ وجداني، وبالألم يملأ نفسي، في غمرة الحزن والألم أجد نفسي وأجد إنسانيتي، وأجدني على صلة وثيقة بأهلي وإخواني، أهلي في الإنسانية، وإخواني في الحياة.