صدر للدكتور حسّان الباهي، أستاذ المنطق وفلسفة اللّغة والعلوم المعرفيّة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، كتاباً جديداً تحت عنوان: "فلسفة الفعل: اقتران العقل النظري بالعقل العملي" عن دار النّشر إفريقيا الشّرق. يدفعنا هذا العمل الفلسفي الضّخم الذي يربو على ستمائة صفحة (600 صفحة) إلى التّفكير في الإنسان من منظور جديد يتمثّل في فهم معنى أن يكون الإنسان مفكرا وفاعلا في نفس الآن، بحيث يشكل اقتران الفكر بالفعل ماهيّة الوجود الإنساني، ويأتي هذا المنتوج الفكري المتميِّز تتويجاً لسلسلة أعمال فكريّة للمؤلِّف تصبّ في نفس المسعى التّأثيلي لمفهوم الإنسان الفاعل في مجتمع المعرفة وعصر التقنيّات والآلات الذكيّة والأنظمة المعلوماتيّة التي تضع قدرة الإنسان على الفعل والمبادرة والتّصرّف بإرادة حرّة موضع تساؤل وريبة، ونترك للقارئ الاطلاع على بعض ما جاء في صفحات الكتاب على لسان صاحبه:
لا تتوقف حياة الإنسان عند مجرد التفكير، بل تتحدد كذلك من خلال أعماله، فالإنسان فكر وعمل، والوجود يكون حيث العمل. لذا، لابد من ربط أقوال المرء بأعماله، بل قد نذهب إلى حد التسليم بأن العمل يتقدم النظر، وأن للعمل القدرة على توجيه الأفكار واستمالة الإرادات وتحديد الرغبات؛ وأنه من الصعب إثبات الذات اقتداء بما هو فكر فقط، وعبر التمثل الذهني والتجرد العقلي، بل إن وجودها ينكشف أساسا من خلال أعمالها. فأنا فكر وعمل، وأنا أفكر بقدر ما أعمل، وأعمل بقدر ما أفكر. فعبر الفعل يتجلى الكائن؛ حيث الحرية والإرادة والمسؤولية والرغبة في الكشف عن مكامن قوته وضعفه. ذلك أن تعريف الإنسان وتحديد هويته لن يتأتى بالاكتفاء بما هو فكري، بل من خلال ربطه بالعمل. فإذا كان الفكر يعود بي إلى ذاتي فإن ميزة العمل تكمن في جعل غيري شاهدا على وجودي وتفاعلي. ومن ثم ، أمكن القول بأن قوام الإنسان هي الفكرة التي تدور في ذهنه، والعمل الذي يتجسد في الواقع. فالعمل يدفع بي إلى الخارج ليتجسد في العالم عبر أفعالي التي أنشد من خلالها الحفاظ على الشيء أو تغيير حالته. وهو ما يدل على أن العمل يعكس البعد الاجتماعي الذي يعكس بدوره البعد التفاعلي بين الفضاء الخاص والفضاء العام، تفاعل يتجلى من خلال التعايش القائم على الدفاع عن المصالح المشتركة بغاية الحفاظ على توازن المجتمع ضمن ما يسمى بالصالح العام. وعليه، ستشكل مسألة العلاقة بين العقل والجسد مركز الثقل في هذا العمل، لما تبين أن تحديد الهوية لا ينحصر في الأنشطة الذهنية، بل يتعداه إلى الحركات والأفعال. حيث اتضح أن الإنسان ليس مجرد كائن مفكر، بل فاعل كذلك؛ وهو ما يتجلى عبر التفاعل بين الحالات الذهنية والأحداث المادية، أي بين قرار اتخذته، الذي هو عملية ذهنية، وتنفيذه عبر القيام بحركة أو حركات جسدية معينة. وعليه، إذا كان الحديث عن العقل يعني استحضار تلك الأفكار التي تدور في ذهني، فإن تنفيذ القرار يتطلب القيام بحركات يُفترض أن تنسجم مع ما فكرت فيه؛ فقد أرغب في تبديل العالم أو تغييره عبر مخطط رسمته، لكن تنفيذ هذا المخطط يتطلب القيام بحركات جسدية معينة. ليصبح السؤال المحور هو تحديد العلاقة بين ما يدور في ذهني وتلك الحركات التي أقوم بها. ومن ثم، أمكن القول إن المشكل الأساس الذي واجهه المشتغلون بهذا المبحث هو الكشف عن الطرائق التي تُحدث بها حالة ذهنية ما أثرا على المستوى المادي، وكيف تنعكس الأحداث المادية على الحالة الذهنية. ذلك أن بعض الحالات الذهنية تشترط حركات جسدية محددة، بنفس الكيفية التي تشترط بها أحداث مادية معينة حالات ذهنية محددة. فلو رفعت يدي، فهذا الفعل حر، لكن لو واجهني شخص ما بالمسدس طالبا مني تسليمه متاعي، فأنا أقوم بذلك تحت التهديد. وهو ما يقتضي البحث عن السبل التي يتم بها تنظيم أفعالنا وفق تصوراتنا الذهنية بالبحث عن العلاقات الرابطة بين التفكير المجرد والعالم المادي. إذ يمكن أن نتساءل بموجب ذلك عما إذا كان العقل هو محرك الجسد، وأن الجسد مجرد آلة تابعة له؟ هل"الأنا" تحيل على الفكر فقط، أم على الجسد، أم عليهما معا؟ هل "الأنا" تعني أنا المفكر فقط، أم أنا الفاعل كذلك؟ إذ يبدو أن الإنسان ليس مجرد فكر، بل فاعل، وأن الفعل يرتبط بالجسد، باعتبار أنه في بداية كل فعل هناك حركة أو مجموعة من الحركات الجسدية. ومن ثم، يمكن التسليم بأن العمل يبدأ مع الفكرة، بما يجعلنا ننظر للفكرة وكأنها مشروع عمل مستقبلي، فمع الفكرة يولد العمل، والإنسان حاضر في العالم عبر الفكر والعمل.
على هذا، يبدو أننا نمتلك قناعة مفادها أن كل ما يقع يتم وفق أسباب كافية، وبالمقابل تولد لدينا التجارب قناعة تفيد أننا نتصرف بإرادة حرة وعن قصد. فبنفس الكيفية التي نطرح بها قصدية الأقوال نطرح كذلك قصدية الأفعال.ليبدو بذلك أن الإنسان فكر وعمل، وأن الوجود يكون حيث العمل. كما أن المرء لايسعى إلى الفعل المنسجم مع أقواله وأقوال الآخرين فقط، بل إن التعايش في فضاء مشترك يقتضي أن تنسجم أفعاله مع أفعال الآخرين، وأن الوضع يقتضي ضوابط تسدد أقوال الناس وتُحكِّم أفعالهم. وعليه، سعينا إلى طرح قضايا تتعلق بالأفعال الإنسانية للكشف عن مدى مسئولية المرء عن أعماله. ذلك أن التسليم بتعلق الفعل بفاعله يقتضي شروطا تتمثل في وجوب أن يكون الفاعل قادرا على فعل ما وقع، وأن يريد الفعل من الجهة التي وقع بها، وأن يختار فعله أو تركه عن قصد. وهو ما جعلنا نفصل القول في الأفعال الإنسانية بربطها من جهة بالتكليف والأمر، ومن جهة أخرى بقضايا تهم الإرادة والقدرة والقصد. وذلك بهدف تحديد العلاقة بين فكرة تدور في ذهني والانتقال إلى طور التصرف.