'' لا ينحصر الأمر في تقاسم ما حدث في الماضي وإعادة تملكه، بل يتعداه، عبر الجدل البناء، إلى التحفيز حاضرا، على إبداع معايير وقواعد عيش مشترك، يسهم الجميع من خلالها في بناء المستقبل...'' إدريس بنزكري
هناك على حافة التلة المطلة على باب عجيسة، حيث تمتد مقبرة المرينين يبدو لك ركن مثير و غير مألوف لشواهد قبور تختلف عما اعتاد المرء أن يراه في مدافن المسلمين عبر التراب الوطني، شواهد موحدة وكأنها جند معركة في صف متناسق، كلما اقتربت منها تبدو لك عبارة غريبة هي الأخرى مكتوبة بتناسق تام، المرحوم فلان ، توفي خلال الأحداث الأليمة التي عرفتها مدينة فاس سنة 1990.
في نفس التلة، التي يقضي بها نساء و أطفال وشباب وشيوخ حي بنسليمان أوقات فراغهم، الموقع يؤرخ لفترة تعود إلى الدولة المرينية، حيث تبدو المدينة العتيقة لفاس تترامى أطرافها بين وادي الجواهر المتسلسل عبر تجاعيد هضبة سايس نحو وادي سبو، يحاديها فندق المرينيين الذي عرف غزوة كبرى من قبل أطفال و شباب دفعهم الفقر إلى الاعتقاد أن الانتفاضة ضد الحرمان تقتضي تخريب الممتلكات، و لم يكن أحدهم يدرك أن تلك الأفعال ستكون سبب إدانة أغلبهم بمدد سجن تجاوزت العقد من الزمن.
الأحداث اندلعت على خلفية الإضراب العام، الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، و الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، حيث تحولت تظاهرة سلمية قادتها النقابتين إلى أعمال شغب وعنف انطلقت شرارتها من الأحياء الهامشية بمدينة فاس، أججتها الأوضاع الاجتماعية التي كانت تعيشها الأحياء الشعبية ، تعبيرا عن التذمر و السخط على المناخ الاقتصادي و السياسي العام.الانتفاضة ووجهت بقمع رهيب، شاركت فيه كل القوات بما فيها الجيش، واستعملت فيه الذخيرة الحية، أعقبتها محاكمات جماعية، و قد تضاربت الأخبار حينها حول عدد القتلى ضحايا هذه الأحداث، حيث ذهبت وسائل الإعلام الرسمية إلى التقليل من حجم الأحداث، في حين وصفتها جهات حقوقية بالفاجعة وتحدثت عن سقوط قتلى و جرحى و معتقلين بالمئات.
وأمام ضغط المجتمع الدولي، تشكلت لجنة برلمانية للتقصي في الأحداث، خلصت في تقريرها إلى أنه لم يستعمل السلاح الناري من قبل قوات الأمن، لكن شهود عيان عايشوا الوقائع عن قرب أكدوا عكس ذلك، وأن أغلب الذين قضوا في هذه الأحداث سقطوا جراء طلقات نارية.
اللجنة البرلمانية أيضا، قالت إن عدد القتلى بلغ 42، إلا أنه و بعد مرور أكثر من عقد ونصف على هذه الانتفاضة، أوردت هيئة الإنصاف والمصالحة في تقاريرها، أن عدد القتلى الذين تم اكتشافهم وصل إلى 106، حين تم العثور شهر مارس 2008 على مقابر جماعية بحديقة جنان السبيل، خلال أشغال الترميم التي كانت تجرى بداخلها، و كان الرأي الغالب يرجح أن الجثامين لضحايا انتفاضة 14 دجنبر 1990، رغم أن الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بفاس نفى ذلك عبر بلاغ رسمي.
بعض ضحايا الأحداث الدامية، لازالوا يطالبون بإنصافهم بعدما تم إقصائهم من تعويضات الإنصاف والمصالحة، بمبرر تجاوزهم
للآجال القانونية التي حددتها الهيأة في وضع الملفات، عدد منهم يصر ويتتشبث بضرورة تدخل الدولة، من أجل جبر الضرر الذي لحق بهم قصد التمكن من إعادة الإدماج وسط النسيج الاجتماعي.