بقلم الاستاذ حميد طولست
سألني أحد المعارف بالمقهى التي ارتادها ، لماذا لم تكتب عن حدث الهجرة النبوية كعادتك مع حلول ذكراها هذه السنة ؟ .. أجبت المتسائل وقلبي يعصره الأسى ويقطعه الألم ، ليس بسبب ما حمله سؤاله من استفزاز وأشياء أخرى ، لكن عن سبب عزوفي عن التغاضي -مضطرا -عن الكتابة عن مناسبة السنة الهجرية لهذا العام كعادتي ، ليس تقصيرا ولا تقليلا من أهمية حدث مهم كالهجرة النبوية ، التي لم تكن انتقالاً ماديًّا من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة فحسب، وكانت انتقالاً معنويًّا ،و كانت فاتحة خير ونصر وبركة على الأمة الإسلامية ، وبداية لتاريخها ، وانطلاقة لبناء دولة الإسلام بها ، وتعزيزا لدين الله تعالى ، ونشرا لنوره في الأصقاع .
ولكن الأمة الإسلامية التي تشرفت بحدث الهجرة النبوية الشريفة قد عميت عما حملته من دروس وعبر قيمة لا ينقطع مداها ، ولم تعد تأخذ بمعانيها التي لا تنتهي مقاصدها ، وزاغت عن أهدافها وغاياتها الكبرى ، التي ظلت على مدى قرون محفزا على النصر ، والانتقال بالأمة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ، ومن حالة القلة إلى الكثرة ، ومن حال التفرقة إلى الوحدة ولم الشمل ، ومن حال الجمود إلى الحركة والعمل على الدفاع عن الحقوق . وحولت ، مع الأسف الشديد ، مزايا هذا الحدث العظيم وقيمه إلى شعارات جوفاء ، يُتغنى بها في المناسبات ، ويُطبل بها في اللقاءات والاجتماعات ، إلى أن أصبحت مستندا لتشويه العقيدة ، وإضعاف الأمة ، وتشتيت كلمتها ، وتفرقة صفها ، وآل وضعها إلى ما هي عليه اليوم من التدهور والانحطاط ، تموج بالفتنة والضلال الموجب للاقتتال والذبح وممارسة الفحش وهتك الأعراض وإحراق الزرع وتجفيف الضرع ، الذي تذكيه التنظيمات المتطرفة التي اكتسحت الأمة ، و تحظ عليه الجماعات التكفيرية التي اخترقت الوطن العربي الكبير ، وجعلته ينزف دما في معظم أرجائه ، في العراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا وتونس… ، ودفعت بأبنائها إلى ركوب مجاهل البحر بحثا عن البقاء، وليس الحياة الكريمة ، كما هو حال اللاجئين السوريين الذين فضلوا عليها بلاداً قاصيةً، وحكوماتٍ غير شقيقة، بعضها صديقٌ وكثيرٌ منها خصمٌ غير ودود، بعد أن تآمرت قوى الشر العديدة، على تدمير بلادهم، و إخلاء أرضهم، وإفراغ بلادهم ، تغيير هويتهم ،وشطب ثقافتهم، وقتل مئات الآلاف منهم ، ما دفع بالغالبية العظمى من الناجين من إزهاق الأرواح الذي يشرعنه الجهَّال والفتاك والمرتزقة المتأسلمين ، للاحتماء بالاوروبيين الذين استقبلوا مئات الآلاف منهم ، وقدموا لهم العون والمساعدة، وفتحوا لهم مدارسهم وجامعاتهم، ووفروا لهم فرص العمل، ومنحوهم جنسياتهم واقاماتهم الدائمة ، التي ستؤهلهم خلال زمن قليل للتأقلم في مجتمعاتهم الجديدة ، التي قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف ، وأمنعهم من ظلم الملوك. كما جاء في صحيح مسلم أن المستورد القرشي قال عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والرّوم أكثر الناس. فقال له عمرو: أبصر ما تقول؟ قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة .
وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة .
وأوشكهم كرة بعد فرة .
وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف .
وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك.
لهذا وغيره كثير ، أيها المحترم ، لم أكتب عن هذه الذكرى العظيمة لهذا العام ، واسمح لي أن أسألك بدوري ، هل تفيد الكتابة عن مثل هذه المناسبة ، في أمة لم تفهم بعد أربعة عشر قرنا ، بأن الأخذ بمعاني ومقاصد الهجرة الحقيقية ضرورة حياتية ؟؟..